مقالات متنوعة
من يريد الدولة الدينية في السودان؟

اعرضت النخبة المهتمة بقضايا الإسلام في السودان وتمظهراته السياسية والإجتماعية عن التدبر في المعاني السائغة و النقاش العلمي الذي ابتدره الأمريكي سيمون مالك عليم في كتابه “في اي صورة:الإسلام السياسي والممارسات الحضرية في السودان”. وسايمون كما زعم كان مستشارا للجبهة الإسلامية في مشروعها لتوحيد المسلمين وغير المسلمين في مناطق النزوح والأطراف بالعاصمة القومية. وعاب البروفيسور عبدالله علي ابراهيم علي النخبة الإسلامية في السودان عدم اهتمامها بالكتاب مثابرة ونقاشا وتعريبا . أما الكتاب الآخر الذي وجد عزوفا من تلك النخبة رغم أهميته فهو كتاب “من يحتاج الدولة الإسلامية” للدكتور عبدالوهاب الأفندي الذي وجد قبولا واستحسانا من قبل الدوائر المهتمة بالفكر الإسلامي في العالم لمحاولته الإجابة علي سؤال الإسلام وقيم الديمقراطية الليبرالية ولكن قابلته النخبة في الخرطوم بالإهمال والصمت المبين.
هذان الكتابان للأفندي وسايمون لا غني عنهما لأي باحث جاد مشتغل بقضايا تمظهرات الإسلام السياسي في السودان والتحديات التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر. وقد أنتبه قليل من الناس الي إطلالة الأستاذ علي عثمان محمد طه الذي قرر كما يبدو إعادة تقديم نفسه من جديد في فضاء العمل العام من منصة الفكر والثقافة والتنظير السياسي بعد أن اعتزل العمل التنفيذي المباشر، وبدأ ظهوره بمراجعة شعار الإسلام هو الحل مؤكدا أنه لا يقود الي تأسيس دولة الرفاهية وحل أشكالات التنمية التي تعتبر أبرز تحديات الدولة ما بعد الكولونيالية..
رغم مكانته الفكرية المرموقة في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر وتجارب الحركات الإسلامية في المنطقة إلا أن الدكتور الترابي فشل في اعادة تقديم نفسه من جديد الي العالم بعد تلبسات تجربته السياسية التي انتهت الي المفاصلة الشهيرة، لا سيما وأن النخبة والجمهرة الإسلامية في مختلف اصقاع العالم أخذت علي تجربته السياسية مآلات انقلابه علي الحزبية الديمقراطية والتضييق علي الحريات أثناء فترة مشاركته في السلطة، وهو ما نجح فيه تلميذه راشد الغنوشي وهو يقود التجربة التونسية في خضم من الشكوك والمعارك فقدم تنازلات جوهرية من أجل استدامة الديمقراطية وبناء الدولة الوطنية. ولعل الجرأة التي خاطب بها الدكتور خالد الحروب الفلسطيني الأصل الدكتور حسن الترابي في الدوحة أثناء محاضرته عن العبر والدروس المستفادة من التجربة السودانية قبل ثلاث سنوات كشفت عن مدي التبرم بخطاب المراجعات الفكرية الذي ظل يطرحه الدكتور الترابي لتجربته الإسلامية في السودان. ولا شك أن الأستاذ علي عثمان وهو يعيد طرح نفسه من خلال منبر المساهمات الفكرية والثقافية يعوزه التأمل في تجربة الترابي الذي رغم تمتعه بالقدرات الفكرية السامقة والمهارات التعبيرية الهائلة وتجربته الثرة إلا أن مفردات خطابه أقل تأثيرا وقبولا من ذي قبل،ربما لأن البعض ما يزال يحاكمه بميسم السياسة وليس مقاربات الفكر. وليس المطلوب من الأستاذ علي عثمان وهو يتصدي لوظيفة الإسهام الفكري أن يحلي خطابه بالإعتذاريات ولكن يؤمل الناس ان يقدم مراجعات فكرية عميقة لمآلات التجربة السودانية في سياقها الإسلامي العام،مقارنة بأشباهها ونظائرها في المنطقة وهو ما يفتقده الخطاب الذي يقدمه الدكتور حسن الترابي رغم ريادته الفكرية وقدراته التي لا تجاري في هذا الصدد.
قبل الظهور الفكري للأستاذ علي عثمان بأسابيع قليلة وقف الدكتور عبدالله النعيم أمام منبر الأكاديمية الكاثوليكية ببرلين محاضرا عن التوسط بين العلمانية والدين من خلال منظور إسلامي. والذي لفت نظري في هذه المحاضرة أن الدكتور عبدالله النعيم اصبح يباعد بينه وطروحات الفكر الجمهوري ويعبر عن مراجعاته وأفكاره منطلقا من موقف ذاتي ومنصة مستقلة بعد أن كان ينسب في الماضي كل أقواله واجتهاداته الي مصدر واحد هو مقولات الأستاذ محمود محمد طه ومصادر الفكر الجمهوري. والذي لفت نظري أكثر أن مقاربته التي طرحها لا تتناقض في جوهرها مع طبيعة الجدل والنقاش الذي استثاره الأفندي في كتابه “من يحتاج الدولة الإسلامية”، ليقرر أن قيم الإسلام يمكن تحقيقها في إطار أنموذج الديمقراطية الليبرالية، ويستعين الأفندي في كتابه المذكور بحجة عقلية مستلهما قصة القتل الأولي في تاريخ البشرية كما وردت في القرآن الكريم بين هابيل وهابيل وأن الله تعالي أرسل غرابا ليعلم الإنسان كيف يواري سوءة أخيه، مما يعني أن الإنسان الذي أجاز له الله تعالي التعلم من الحيوان يمكنه التعلم من تجربة الإنسانية جمعاء. وما دامت الديمقراطية الليبرالية هي أهدي تجربة في تاريخ الإنسانية لإدارة الشأن العام وتداول السلطة وحل أشكالات التنازع والخلاف فهي جديرة بالنظر والإعتبار في المنظور الإسلامي لأنها تستطيع أن تعبر عن التطلعات و القيم الإسلامية لجمهرة المسلمين. في مقاربته المقابلة يقول عبدالله النعيم ان سؤال العلاقة بين الديمقراطية والإسلام هو سؤال أيدولوجي وليس ديني. ويتساءل لماذا لم يبرز سؤال مدي تكيف الدين المسيحي مع قيم الديمقراطية؟ ينفي النعيم وجود دين رسمي للدولة لأنها في الأساس مؤسسة سياسية ، وفي المقابل يفرض المسلمون رؤيتهم الدينية علي المؤسسة السياسية وبالتالي يزعم النعيم أن الشريعة لا يمكن فرضها بسلطان الدولة لأنه لا توجد سلطة مركزية دينية في الإسلام. وينفي النعيم وجود ما يسمي الدولة الإسلامية في التراث اللغوي والفقهي والسياسي للمسلمين. لكن يقع النعيم في خطل التفكير النظري عندما يفرق بين عهد النبوة والخلفاء الراشدين. فيري أن أقوال الرسول صلي الله عليه وسلم دينية ملزمة أما الخليفة الأول ابوبكر الصديق فهو قائد سياسي وليس ديني، أي أن كل ما هو ديني أنتهي بوفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وما قام به الخلفاء الراشدون بعد ذلك يعد أجتهادا سياسيا محضا ويستشهد بحروب الردة التي عارضها عمر بن الخطاب.وأنتهي عبدالله النعيم في مقاربته الي أنه لا يوجد مفهوم للدولة الدينية في الإسلام مؤكدا أن الإسلام قائم علي قاعدة الاختيار الطوعي الحر و الحرية الشخصية والمسئولية الفردية، ويخلص الي أن الديمقراطية الليبرالية هي اقرب نماذج الإسلام في الحكم والسياسة وينتهي به المقام الي أعادة تقديم أطروحته الرائجة حول علمانية الدولة وتدين المجتمع. وهو يخالف سياق أطروحات الغنوشي الذي يعتقد أن الطرح الإسلامي يعتبر أحد التيارات السائدة داخل منظومة الديمقراطية الليبرالية وأن الحركات الإسلامية يجب ألا تحتكر تفسير الحقيقة الدينية ولا تفرض سقفا لمحددات الأخلاق داخل الإسلام.وهذا شبيه بما أنتهي اليه دكتور الأفندي في مقاربته” من يحتاج الدولة الإسلامية؟”، الي ان منظومة الديمقراطية الليبرالية قادرة علي استيعاب القيم الإسلامية والتعبير عنها في سياقها الشامل لإشتمالها علي الحرية والفعل الديمقراطي الحر.
لا شك أن اي افتراع لمراجعات فكرية داخل سياق التجربة الإسلامية في السودان لا بد أن يجيب علي أطروحات الأسئلة الفائتة، وللأسف لم يبرز حتي الآن خطابا مقنعا من داخل فعاليات التجربة الإسلامية في السودان ليجيب علي الأسئلة الحقيقية، لأنه أكتفي بتخريجات أهل السياسية والناشطين من حملة الحقائب وأهمل اسهمات أهل الفكر والثقافة الذين أختاروا الصمت والإبتعاد.
خالد موسي دفع الله