مــحنة المعارضة!!
> منذ ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي مطلع تسعينيات القرن الماضي، تستنسخ المعارضة السودانية نفسها ومواقفها وتعبيراتها وخطابها دون أن تقدم أنموذجاً واحداً أو تحقق هدفاً ذهبياً في مرمى النظام الذي تمهد لإسقاطه، ولا تجدن قوى المعارضة السياسية والمسلحة، المتمردة والملحقة بالتمرد، لا تجدنها إلا وهي معلقة في هواء وفراغ الانتظار لمعجزة تأتيها من السماء ليصحو قادتها من سكرتهم ذات صباح، ليجدوا النظام قد سقط وتبدد في الهواء وخرجت الخرطوم تستقبلهم بالورود والرياحين.
> كم من البيانات والمواثيق والإعلانات صدرت عن الأحزاب المعارضة والمجموعات المسلحة طوال عهد الإنقاذ، تتعدد أنواعها وأسماؤها وأماكن مهرها بالتوقيع، وتتفق في هدفها ومقصدها وصياغتها، حتى تحولت عملية اقتلاع وإسقاط «نظام الخرطوم» من ظاهرة صوتية تلوكها وتمضغها أفواه القيادات المعارضة، إلى ظاهرة ورقية باهتة لا تساوي ثمن الحبر الذي تُكتب به.
> ولو تعلمت الأحزاب والتكوينات الصغيرة المعارضة، التي ما قتلت تهديداتها وانتفاشاتها وانتفاخاتها يوماً ذبابة، أن عملية إسقاط النظام تحتاج إلى ظروف وترتيبات وتدابير وعمل سياسي دؤوب وتعبئة شعبية عارمة وروح وطنية وانتماء حقيقي لا تشوبه شوائب الاستنصار بالخارج، لو تعلمت ذلك.. لما تركت مجموعة من المسترزقين بوريقات التوقيع ليتربحوا منها المال الحرام ويتاجروا باسم معارضة النظام ويمدون أياديهم السفلى لقوى دولية وإقليمية ليقبضوا ثمن مواقفهم ومساعيهم الحثيثية من أجل إنهاء وجود السلطة القابعة في الخرطوم وتغيير دفة الحكم في السودان.
> ما صدر قبل يومين باسم «نداء السودان» من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ووقع عليه السيد الصادق المهدي وعدد من قيادات الحركات المتمردة وأسماء لا قيمة لها في بورصة السياسة ولا السجل الوطني النظيف الشريف، لهو أفضل دليل على أن معارضة الحكومة التي تتخذ من العمل العسكري وسيلة لها، قد وضعت نفسها بجدارة في قائمة المتبطلين سياسياً والمتاجرين بأمن وسلامة الوطن واستقراره، والوالغين حتى آذانهم في وحل العمالة النجس.. فمن يجلس في الفنادق بالخارج ويقهقه بين دنه وكأسه وهو يحلم ثم يعمل على محاربة بلده وإضعافها، لا يمكن وضع تاج الوطنية فوق مفرقيه وعلى رأسه الطائش!!
> ليس هناك من سبيل أمام المعارضة بكل أشكالها وتكويناتها وتشرذماتها وأحجامها الأميبية الصغيرة، إلا الانخراط في عملية الحوار الوطني والقبول بقواعد اللعبة، والعمل السياسي من الداخل والمشاركة في الانتخابات لإزاحة النظام الحاكم في حال فوزها، لأنها ببساطة جربت هذا العمل من قبل وما قطفت إلا حصاد الهشيم، جربته في الحدود الشرقية وكانت معها قوى خارجية والجيش الشعبي بقيادة قرنق، وفتحت عدة جبهات في الجنوب والشرق وجنوب كردفان، وحاربت واحتربت البلاد كلها وسالت دماء أبنائها، ولم يسقط النظام ولم يجثُ على ركبتيه مستسلماً، لقد حاربت القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى فلول المعارضة في كل الجبهات، ونالت القوات المسلحة شرف الجيش الوحيد في المنطقة الذي يقاتل لأكثر من نصف قرن ولم ينكسر ولم ينهر كما انهارت جيوش كثيرة تمزقت وتفرقت أيدي سبأ.
> لقد جربت المعارضة كل ذلك.. وبعضها كان في الخرطوم مثل قيادة حزب الأمة القومي الذي ينسق مع الحركة الشعبية وحركات دارفور، لكن طاش السهم وخاب المسعى في كل دورات وأطوار الصراع، ولم يعد الشعب السوداني ينتظر من مثل هذه المجموعات أن تأتيه على ظهور الدبابات من الخارج وتنزل له موائد من السماء، أو تحيل له القاع الصفصف إلى سندس أخضر، وتملأ له الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً، كما تتوهم قيادات هذه المعارضة التي تعيش هذيانها وذبولها السياسي المجيد.
> لقد ملَّ الشعب هذه الألاعيب والترهات، فهو يريد الأمن والسلام والاستقرار، وليس في مقدوره أن يتحمَّل كلفة هذه المواجهات ولا أكاذيب المعارضين الماشئين بنميم، فمن يرد منهم ثواب الحكم والسلطة فليتحاور بشجاعة ووطنية ويخوض الانتخابات ليفوز بجدارة أو يخسر بشرف، فلا مجال اليوم لمن يسعى إلى تأليب الخارج ضد وطنه أو يجهز الجيوش والمخربين ليشعل النار في داره وبيته.. لقد وعي الشعب الدروس الكثيرة القاسية.. ولتبحث قوى المعارضة عن وسيلة أخرى غير بياناتها ونداءاتها التي تضيع في وديان الصمت.. لأنها بلغتها وعباراتها المحنطة قد عافتها الأذن ونفرت منها المسامع.
> استجابة لرغبة العديد من القراء نعيد نشر هذا المقال.
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة