الصادق الرزيقي

التجربة الرواندية


> سحابة نهار أمس، قضيناها في تجوال طويل في العاصمة الرواندية كيالي. التي تزدهر وتظهر وتتقدم بسرعة فائقة.. وتشهد تطوراً عمرانياً وتنظيماً لها، يضعها في مقدمة العواصم الأفريقية عمَّا قريب. بالرغم من قلة موارد رواندا، إلا من عائدات قليلة من تصدير الشاي والبن، وكذلك بالرغم من الجراح العميقة التي بدأت تندمل شيئاً فشيئاً في مجتمع أقعدته الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي..
> العاصمة الرواندية، هي أكثر أنموذجاً يمكن الاقتداء به في إعادة بناء الذات من جديد، والخروج من التابوت والعودة من تحت الرماد، مثل طائر الفينيق الأسطوري..
> في قلب كيالي وهي تشرئب بتلالها العالية، توزعت عليها البنايات والعمارات الجديدة، مُغطاة بأشجارها الخضراء كما الحسناء في رداء بهيج. في قلب المدينة يوجد مبنى أنيق تحيط به حدائق غناء من كل جانب، تحفظ الأزاهر والورود والشجيرات الإستوائية بأكمامها وبراعمها وظلالها.. وتحسب في لونه الزاهي والطبقات الثلاث وراءه الحديث..مسرحاً أو معرضاً للتشكيل، أو داراً للشعراء والأدباء النحارير..
> لكن المبنى في حقيقته أكثر المناطق بؤساً ومأساوية في كيغالي، ومبعث حزن رواندا وأوجاعها، وما يجعل قلبها مفطوراً وممتلئاً بالأسى.. فهو متحف الإبادة الجماعية التي حدثت إبان الحرب العرقية الطاحنة بين الهوتو والتوتسي في العام 1994م.. ولم يشهد العالم فظائع كتلك لا تزال الدماء والأشلاء المقطعة والجماجم والرؤوس المبعثرة، وبطون الحوامل المبقورة وجثث الأطفال الممزقة والأجنة المتفحمة.. تنتظر الضمير العالمي الذي غاب، وخاصة فرنسا التي تورَّط جيشها وحكومتها في ما جرى وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وكل العالم الأول الذي يتمشدق بالحديث عن ضحايا الحروب، جرائمها وحقوق الإنسان..
> هذا المتحف وثَّق وسجَّل الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا.. كل شيء موجود من مشاهد فيديو المذابح كيف بدأت ونُفِّذت، الى صور الضحايا وهم «20059» مائتي ألف وتسعة وخمسين شخصاً.. ذبحتهم السواطير وقطعتهم وحصدتهم البنادق.. ومزَّقت لحومهم السكاكين وسط سمع وبصر العالم..
> وفي المتحف المراحل التاريخية التي مرت بها رواندا منذ عهد الاستعمار والى ما بعد الإبادة الجماعية، وكيف استطاعت تحقيق المصالحة والعدالة، وأن تبني نفسها لتنهض من جديد..
> ولتجدن رواندا أكثر دول العالم مؤازرة للسودان في نفي ما يحدث في دارفور وإلصاق تهمة الإبادة والتطهير العرقي به.. والتأكيد على أنه ليس من قبيل الإبادة الجماعية كما تدعي المنظمات الصهيونية وغلاة المتشددين في الدول الغربية والحركات المتمردة في دارفور.. وظل الرئيس الرواندي بول كاغامي ينفي بشدة وباستمرار المقارنة بين ما شهدته بلاده في مطلع التسعينيات وما حدث في دارفور..وآخرها حديثه قبل فترة قصيرة لصحيفة إنجليزية شهيرة عن هذه الحقيقة.. ويستند في ذلك بوجود قواته ضمن جنود اليوناميد في دارفور ومعرفته لدقائق الأمور.
> الذي يهم في هذه التوطئة الطويلة.. إن تجربة النهوض السريعة من وهاد الإبادة الجماعية والحرب الضروس والشقاق الأهلي.. والصعود في سلم التنمية ومحاربة الفقر وتحقيق قدر معقول ومقبول من الخدمات ومشروعات البنية التحتية وتطوير نُظم الدولة والحكم، هي تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها وأخذ العبر من تجلياتها..
> ورغم صحة القول إن رواندا بلد مرضيٌ عنه في الغرب وهي ضمن منظومة يتم دعمها وتمويلها، إلا أن تطبيقات البرامج التنموية وتوفر الإرادة الكاملة للتغير..شيء يستحق التأمل والنظر..