منى عبد الفتاح : روحٌ إيجابية
كثيرٌ ممن حاول الاستفادة من التجربة اليابانية نظر إليها من زاوية تتعلق بفلسفة النهوض من القاع. ذاك النهوض المعجزة كان بعد الهجوم النووي الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما وناجازاكي عام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان النظر إلى تلك التجربة يتم عبر سبر أغوار علاقة الثقافة بالنهضة والتغيير ولكن نادراً ما تتم الإشارة إلى طرح أسئلة على علاقة ببثّ الأمل والروح الإيجابية.
ونفس التجربة في النهوض خاضتها ألمانيا عام 1945 إثر استسلامها للحلفاء وبعد أن أصبح معظم سكانها من النساء وسط دمار المدن والبيوت. لم ينقذ ألمانيا سوى عزيمة النساء، حتى إنهن كنّ يكتبن الشعارات التي تشجعهنّ على بثّ الروح الإيجابية، وقد أجدت نفعاً كبيراً شعارات مثل «افعل إنك تستطيع» و» ازرع الأمل قبل القمح» و»جدية وأمل». فبالرغم مما حدث من دمار فقد كانت الروح هي المحرّك للنهوض والبناء والتقدّم، ألمانيا اليوم تملك أقوى اقتصاد أوروبيّ، واليابان صاحبة أكبر معجزة اقتصادية عالمية. مثل هذه التجارب القوية في النهوض الإنساني لم تكن لتحدث لولا بث الأمل في النفوس وخلق روح إيجابية في شعوب محطمة ومحبطة.
لا ينهض شعب ولا دولة ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنّما على المستوى الحضاري ورفعته، بغير نهوض أفراد المجتمع. ونهوض الفرد لا يتم إلّا بتغييره لنفسه، فعلى هذا المستوى تُعتبر الروح الإيجابية أساساً لتزكية النفس فيما أكدّه القرآن الكريم والسنّة النبوية التي تربي النفوس وتغرس الأخلاق الفاضلة.
تؤكد التجربة أنّ كل يوم جديد يمرّ يحمل الكثير من الآراء السالبة فيما يتعلق بالتوافق والاختلاف. وهذه الأيام يدور خلاف واسع حول التسامح والروح الإيجابية حول حادثة شارلي إيبدو، وكحال كل المسائل الخلافية تقف الأمّة الإسلامية في مفترق طرق، هل تتعامل بقيمة التسامح وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، أم بردّ الهجوم. طفق القوم يكفّرون بعضهم بعضا بأكثر مما فعل منفذو الهجوم وذلك بمزايدتهم حول من أيّد الهجوم انتقاماً فهو محبّ للنبي الكريم، ومن أنكره ودعا إلى التسامح فهو غير منصف.
ولكي تبث الروح الإيجابية على مستوى المعاملات لا بد أن يكون الإنسان روحا لا جسدا، وهذا موضوع كتاب بحثي في العلم الروحي الحديث لمؤلفه رؤوف عبيد. ويمكن استدعاء موضوعاته لاكتشاف يتعلق بالأدب الروحي والإلهام، الذي قال به فلاسفة الإغريق والمسيحية والإسلام وانتقاله من نطاق الفلسفة النظرية إلى نطاق البحث التجريبي في العصر الحاضر الذي أثبت أنّ هذا الإلهام هو شيء ضمن عقل الإنسان، لا هو بالعقل ولا الشعور بل أعمق من كليهما، وهو حار بعكس القوة المفكرة الباردة.
استعان الكاتب في بحثه هذا بأفضل علماء الطبيعة منهم علماء جمعيات البحث الروحي والطبيعة والجمعية الملكية الإنجليزية أمثال دي مورجان، وليام كروكس، وليام باربت وأوليفر لودج صاحب «الإنسان والكون».
ونرى العالم الآن بعد الشطحة المادية الكبيرة، ووصوله أعلى منارات العلم والإدراك، إلّا أنه استدرك ضرورة الاستفادة من اندماج الروح والعقل معاً، فظهرت دراسات علمية بعثت إلى الوجود التأمل كممارسة روحية موغلة في القدم، وأيدت انتشاره على نطاق واسع بوصفه أحد الوسائل المساعدة في إثراء الذهن ومساهمته في التقليل من الضغط النفسي وتخفيف الآلام الناتجة عن الأمراض المختلفة. والأهم من ذلك أنّ التأمل يبث روحاً إيجابية جديدة، منفتحة على التسامح ومقدمة على احتواء الاختلاف مع الآخر.
أما الأعمال السينمائية وأفلام الخيال العلمي والإلهام في دعوتها إلى الخير ومحاربة الشر وظفت أسرار هذه الروح وكيفية انتشالها من السلبية والتحليق بها في سماء الإيجابية كما في الروح النقية الداعية إلى الخير. وكما الروح الإيجابية هي مصدر السعادة والنجاح في الحياة بامتثالها لصفات الشكر والرضا والتوكل والصبر، فإنّ الروح السلبية هي مصدر التعاسة والفشل لأنّ أصحابها لا يرون إلّا من خلال منظار أسود ملؤه التشاؤم والجبن والجحود.