مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : ماذا تقدّم لوطنك؟

[JUSTIFY]”لا تسأل ماذا يقدم لك وطنك، لكن اسأل ماذا تقدم أنت لوطنك”. أول مرة سمعت هذا النص كان في البرنامج التلفزيوني الأشهر”أوبرا”، ومثلما أعجبتني البلاغة العجيبة والمعاني الراقية في هذه الصياغة، أعجبت بحماس الجمهور وشدة التصفيق حتى قبل أن تنتهي المذيعة اللامعة “أوبرا وينفري” من الكلام.

هذا النص الجميل بالطبع من خطبة جون كنيدي (1960 ـ 1963م) ألقاها في خطاب تنصيبه، وقد كتبها ثيودور سورنسون كاتب خطبه الشهير. تحوّلت الخطبة بعدها إلى تراث أمريكي خاص رغم حداثة الدولة، يتم تداوله في كتب الدراسة ودور العبادة، وتحوّلت مثل هذه الفقرة إلى (نص مقدس) وحكمة مأثورة ليس لأن قائلها هو السيد الرئيس ولكن لما حملته من معانٍ بليغة وتعبير سلس.

“كاتب خُطب الرئيس” وظيفة أساسية في البيت الأبيض منذ العام 1921م، لا أدري ماذا يوازيها في الوطن العربي أو عالمنا الثالث، فرغم كثرة المستشارين والمساعدين للرؤساء العرب، فالطابع العام لمثل هذه الوظائف في ذهن العامة هو تأليب الرئيس وليس مساعدته وإظهار الجانب “الشديد” فيه وليس الجانب الإنساني اللين.

ورغم أهمية وظيفة كاتب خطب الرئيس في البيت الأبيض فقد تتراجع إلى أن تصل درجة مستشار أو مدير لخطب الرئيس. أما أشهر من كتب خطبه بنفسه من الرؤساء الأمريكان هو جورج واشنطن فقد كتب خطاب تنصيبه بنفسه، وكذلك إبراهم لنكولن، وبيل كلينتون. ولنا أن نتخيل حجم الاهتمام بكلمة واحدة تصدر عن الرئيس سواء أكانت رسمية أو غير رسمية، ومدى العناية بقياس ردود أفعال المواطنين وتأثير هذه الكلمة على الرأي العام.

وأهم ما يميز أداة المخاطبة في الخطبة الأمريكية هو تفضيل الرؤساء الأمريكيين استعمال عبارات مثل “إدارتي” أو “حكومتي” ما يعطي انطباعاً واضحاً باحترام الجمهور وذلك بوضع خط فاصل بين شخصية الرئيس وبين منصبه، على عكس ما يحدث في دولنا، فيخاطب الرئيس شعبه بـ “أنا” مضخمة للذات، أو “نحن” بطريقة توحي بدمج الوطن في شخص السيد الرئيس.

ما دفعني إلى الكتابة عن خطب الرؤساء غير إعجابي بالخطب الشهيرة لبعض الزعماء، وارتيادي الراتب للموقع المخصص لأشهر مائة خطبة أمريكية، هو افتتان الإعلام العربي الواضح من الجانب الآخر بخطب رؤساء نالوا الرقم القياسي في مقدار الخطب المستفزة أو المسيئة للمواطنين. ولن نستغرب إذا كانت أمثال هذه الخطب تأتي من نظم حكم ديكتاتورية، تثق تمام الثقة في أنّها باقية ولن تؤثر فيها جريرة كلام ارتكبها الحاكم.

خاب ظنّ القذافي من قبل، فبعد أكثر من أربعين عاماً من اضطهاده لشعبه وتركيزه على الإساءات المعلنة فعلاً وقولاً، انتهى أمره بالثورة المجيدة. أمّا بشار الأسد فما زال غيّه، ويواصل في تصريحاته بأنّ الثوّار ما هم إلّا عملاء لجهات خارجية في تبرير مستميت لما يقوم به من تقتيل وتشريد للشعب السوري.

أمّا الرئيس السوداني عمر البشير، فقد احتارت وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي تلزمها الترجمة لبعض العبارات المسيئة في خُطبه، وهي غالباً بالعامية المسرفة في سوقيتها. والرئيس كما هو واضح لا يقرأ من ورقة أمامه، وخطاباته تلقائية وحماسية، ومثيرة للحيرة والارتباك. وكما هو معلوم فإنّه يمكن لأي رئيس أن يخاطب شعبه ويوصل رسالته باللغة التي يفهمها ذلك الشعب، ولكن عندما نأتي إلى خُطب الرئيس البشير نجد أنّ تركيز الصحف المحلية على بعض العبارات المقترنة بهذه الخطب لدرجة وضعها خطوطاً رئيسة لصفحاتها الأولى.

وليس هناك من مطالبة لأي رئيس عربي بصياغة خُطبه بلغة ساحرة آسرة حتى تتناسب مع أسماع شعبه الرقيقة، كما أنّه غير مطالب كثير من مستشاريه بالحذف والإضافة والتعديل لهذه الخطب، لأنّ هناك مهام أثقل واجب تنفيذها قبل جلوس أحدهم لصياغة خطبة جماهيرية. ولكن المطلوب هو الإحساس بالمواطنين واحترامهم وإنصافهم، فكم من حكّام أضاعوا الأوطان لأنّهم اختزلوها في شخوصهم.
[/JUSTIFY]