احمد دندش

طبيب مع (وقف التنفيذ).!


[JUSTIFY]شهادتى على الحائط، ومشرطى على الطاولة يقاسم بقايا كوب الشاى (البايت من أمس) وكيس التمباك (المخمر)، طموحى هو أن أقود (ركشة) وأجمع التوريدة وبعض المصاريف لناس البيت، يصعد معى للركشة خلال مشاويرى العديد من الناس، بعضهم يقتادنى قسراً للونسة عن (البلد وأحوال البلد)، فأقول بسرعة: (ياخى هى دى بلد؟؟؟ هسى بتصدقوا..أنا دكتور والله العظيم )..ويضحكون فى جذل، قبل أن يشير إلى أصغرهم بسبابته على رأسى ويقول: (ههه…فى دكتور بسوق ركشة)..واصمت على مضض، وازيد من سرعة (الركشة) حتى أصل لمشوارى وأنتهى من ذلك النقاش المؤلم، وعندما يشعر الركاب بالخطر، ينادينى أضخمهم وينتهرنى قائلاً: (هوي يازول..داير تقلبنا فى الزلط دا ولا شنو؟؟)، فأجيبه بسرعة أيضاً: (ماتخاف..لو إتقلبت مابتجيك حاجة..أنا اصلى دكتور)، وعند تلك النقطة يلكزنى على رأسى بمرفقه الضخم ويقول: (دكتور لى روحك ياحبيبنا)، وعند هذه النقطة ايضاً أهدئ من سرعة الركشة، ويادار مادخلك (دكتور) !!
كنت هكذا دائماً، انتهز الفرصة حتى ابرر لهذا المجتمع القاسي اننى (دكتور) وأستعين فى بعض الاحيان بالحليفة رغم أنها لاتجدى نفعاً، ووالدتى هناك فى الحى تمارس الإستعلاء الغير مبرر، على حاجة (حليمة) وحاجة (سعدية) وحاجة (التينة)، وتقول لهم بالفم المليان: (أجى..كيفن ياسعدية ولدك راقد ليهو اسبوع ومابتكلمينى؟؟ إنتى ماعارفة ولدى دكتور قدر الدنيا)، وأستمع انا لأطراف ذلك الحوار، من تحت البطانية، ثم أتمتم فى حسرة: لاحول ولاقوة إلا بالله.
حياتى عادية، وممارساتى اليومية أكثر من عادية، بإستثناء حوارى اليومى مع عامل تلك الطلمبة، حول خلطة الزيت بالبنزين التى يبتلعها جوف الركشة الظمأن، والاسعار مابين اليوم وأمس، قبل أن أختتم الحديث بعبارة: (دنيا)، التى من شدة إعجابى بها، كتبتها بقلم جاف على مؤخرة الركشة، بعد أخذ الإذن من صاحبها الجلابى بالطبع.
(تودّكت) فى مهنة سائق الركشة حتى أننى نسيت مهنتى الحقيقية، وهى أننى طبيب إمتياز، وابلغ دليل على هذا أن شقيقى الاصغر اصيب بجرح بسيط على يده، فحملته بسرعة متجهاً نحو المستشفى ولكن نظرة صارمة من عينى والدتى مصحوبة بعبارة: (أجى…إنت شنو يعنى؟؟ تمرجى؟؟)، جعلتنى أعيد شقيقى إلى الفراش، واصيح بصوت جهورى لزوم الفهلوة وكدا: (يابت يامنى..جيبى ليك بصلة وتلاتة ليمونات وحبة ملح)….هكذا كانت حياتى بالمنزل، دكتور مع وقف التنفيذ.
يسألنى أصدقائى دوماً: أها…متين حنشوفك بالروب الابيض، واضحك فى سرى، فهؤلا بسيطى النظرة، ولايعرفون الفرق مابين (الروب) و(الروووووب)، لذلك كان من الطبيعى أن اجيبهم بعبارة: قريب يااخوانا انشاء الله.
حتى قصة حبى الوحيدة، اصابها وابل من الفشل، بسبب هذا الموضوع، وحبيبة العمر والسنوات الطوال، تقول لى بلهجة متعجرفة: (هسى لو ابوى شافك..أقول ليهو شنو يعنى؟؟)، وارد عليها بضيق: (قولى ليهو اي حاجة..شغلانية مؤقتة لحدى ماربنا يفرجا)، وتسألنى بلداحة اكبر: (وربنا حيفرجا متين؟؟)، فأهز كتفاى فى لامبالاة واجيبها: (دى بقى عند ربنا وبرااااهو عالم)، وتلفونى يرن بشدة، فأرفع السماعة بسرعة ويأتينى صوت والدها على الجانب الآخر: (شوف هنا ياولد..بنات الناس مالعبة فى يدك..لما تبقى دكتور بالجد، ممكن نتكلم)، ويغلق الخط فى وجهى دون ان يمنحنى حق الرد، كعادة (أبهات الزمن دا).
قصص تبدأ..وقصص تنتهى، ولا أزال سائق ركشة، مشاوير متواصلة، وزوغانات من كمائن ناس المرور المترصدين بركشتى الوديعة، شوارع، وبقالات، ومحطات، ونوادى، وفى آخر الليل بعض (السكارى) الذين يشيرون إلى بالتوقف، فأزيد من سرعة الركشة، حذار مصيبة آخر الليل، تؤدى بى إلى مرمطة وسين وجيم، هذا بالطبع إن لم تتصدر صورتى صحف اليوم التالى تحت مانشيت: (سكارى يقتلون سائق ركشة وينتزعون قلبه وفشفاشه ويلقون به فى النيل).
الجلابى حنون على..ويعلم اننى (ود ناس) لذلك لايسألنى عن التوريدة فى نفس اليوم، بل يتركنى حتى أمنحها له، لذلك كنت متشبثاً جداً بالعمل على ركشته، فهى أيضاً (بنت بنوت) ومربية غالى، إضافة إلى أنها فى مقتبل العمر، ولم تصل لسن اليأس بعد، (الركشة طبعاً).
على موقف الركشات غرب الحلة، تدور الحوارات الفارغة والمليانة، وأظل اراقب الاحاديث حتى تصل مرحلة (الطب)، فأقفز وأنبرى للحديث عن العمليات الجراحية وأدوات الجراحة وغيرها، فيضحك سائقى الركشات بصوت عال، وعندما أسألهم عن سبب ذلك، يقترب منى أحدهم ويقول: (معاك عبدالله مفك..خريج طب بشري)، ويعقبه الأخر فى سرعة: (معاك حسين حسنين..خريج طب أطفال)، ويعقبه أخر: (وأنا وليد الوليد خريج نساء وتوليد)…و….
ياوليد…مالقيت غير النساء والتوليد..؟؟؟
سنوات مرت على، حتى اصبحت (أحرف) سائق ركشة يتهافت عليه الجلابة، لعدة صفات أولها اننى (ود ناس) وأمين وأحافظ على الركشة تماماً كأنها ملكى، لاأعرف (المقصات) ولا (تشخيتات نص الزلط)، اسوق بمهلة وأحترم الزبائن، (خصوصاً بنات الشهادة العربية)…أصلو ديل ناس القروش وناس (التبس)، يعنى (البقشيش) بالعربى.
نسيت الطب ومهنة الطب وماجاورها من مهن، واصبحت قبلة لكل (براعم الجوكية) المتعلمين حديثاً لقيادة الركشات، حتى أنهم صاروا ينادوننى بعدد من الالقاب على شاكلة: (يابرنس..ويازعيم..وياأسطى)، ولكن أقرب الالقاب التى كانت إلى قلبى لقب (يادكتور)، ومع أن ذلك اللقب أطلق على لسرعتى فى صيانة الركشات، إلا اننى احبه جداً، ففى النهاية حصلت على ماكنت أريده…لقب (دكتور) وبس.![/JUSTIFY]