مقالات متنوعة
منى عبد الفتاح : سيناء على درب “عزازيل”
وإن تكن تلك الطلقات هي التي أشعلت فتيل النزاع، وأعادت الأحداث، في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، إلى زمان التأهب للعدوان، فإنّ الأحداث المحيطة بالمنطقة جعلت الوضع يتعدى ما تمثله سيناء من زمن للمقاومة وأدبها، إلى زمن مسكون بالنزاع الأبدي. عند هذه النقطة، يدّعي المدجّجون بالأسلحة، ممثلين للسلطة الانقلابية، أو جنود “ولاية سيناء” التابعة لتنظيم داعش، الحق فيما يقومون به. ووسط هذه الفوضى، التي لم تترك شبراً إلّا غمرته بمراراتها، فإنّ الضحايا هم المواطنون المصريون المتوجسون تحت حمم فوهات الأسلحة الثقيلة والقذائف.
يكمن السر في تعافي مصر النسبي من أدواء سيسيولوجية تحيط بأغلب البلدان العربية والأفريقية، في ندرة التكوينات القبلية والعشائرية، إلّا فيما تم إنعاشه، عقب انقلاب 3 يوليو من نزاعات بين قبيلتي بني هلال العربية و”الدابودية” النوبية، في محافظة أسوان. تعود جذور المشكلة بين القبيلتين إلى عهد حسني مبارك. ولكن، وصل الأمر، في عهد عبدالفتاح السيسي، إلى حدّ المناداة بحق تقرير مصير النوبيين. فهل هناك ما يشي بوجود رابط بين مشكلات القبائل في جنوب مصر والنزاعات الأخرى للقبائل في محافظات سيناء؟
وإذا كانت مشكلات منطقة النوبة قد تم تعتيمها، بعد بروز أصوات مطالبةٍ بحق تقرير المصير، فهناك عدة محدّدات، تحيط بأزمة سيناء، تفتح جرحها مرة تلو أخرى. منها أنّ سيناء مكشوفة فعلياً، بوقوعها في ملتقى قارات، وهي البقعة الوحيدة في أفريقيا التي تأخذ منها، ومن قارة آسيا، مساحتها الجغرافية. كما أنّ منطقة سيناء ظلت، وعلى مدى زمن طويل، مرتعاً خصباً لأحلام الطامعين، خصوصاً إسرائيل التي ترى فيها حقاً تاريخياً، يمتد من الفرات إلى النيل. أمّا المحدّد الداخلي والناشئ، فهو أنّ هذه المنطقة، بثرائها المعروف وأحداثها المتلاطمة، تلبي
“الأمن عصيٌّ على التحقيق، في ظل حالات الصراع الكامنة بين القبائل، والتي تكون في حالة انتظار لمن يستثير عصبياتها، ولمن يبرع في العزف على وتر تحقيق حلم الزعامة، والمكانة التقليدية لكل قبيلة، كنوع من الاستقطاب الذي يقرّب بعضهم، ويبعد الآخر”
نزعات قيادة الانقلاب للاستثمار في المصائب، بزيادة إشعال الصراع السياسي حول الدوائر الانتخابية.
فرضت منطقة سيناء، تاريخياً وجغرافياً، وبوصفها منفذا استراتيجيا مهما لمصر ولدول الجوار، نفسها على الواقع السياحي، ولم تكن بحاجة لأكثر من تحقيق الأمن لضرورات التنمية. ولكن الأمن عصيٌّ على التحقيق، في ظل حالات الصراع الكامنة بين القبائل، والتي تكون في حالة انتظار لمن يستثير عصبياتها، ولمن يبرع في العزف على وتر تحقيق حلم الزعامة، والمكانة التقليدية لكل قبيلة، كنوع من الاستقطاب الذي يقرّب بعضهم، ويبعد الآخر، عملاً بسياسة “فرّق تسد”. وتوضح هذه التكوينات أنّه حتى لو تجاوز أهل سيناء مفاهيم تتعلق بالوفاء للقبيلة، فإنّ الخلط واللعب بأوراق هذا الملف الحساس، يمكن أن يتم استثماره بكل سهولة، لتمديد أوار النزاع. فوصف أبناء سيناء، وهم مصريون حتى النخاع بتكوينهم الإثني، كما يرد في الإعلام الرسمي، فيه تغييب واضح ورسم مشوّش للوعي الذاتي بالمُوَاطَنة، ما يصوّر شبه جزيرة سيناء كأنها دولة داخل الدولة، وليست جزءاً منها. وإظهار هذه الأوصاف بغلاف شرعي، والحديث عنها، يجعل الإشارة إلى مفردة القبيلة، مباشرة وعلناً، في وسائل الإعلام، وكأنّه أمر طبيعي. كما يمثّل، في الوقت نفسه، نوعا من استغلال المخزون العاطفي للمواطنين في المنطقة، لترويج أجندة سياسية، وإيجاد نوع جديد من المزايدات العلنية التي تطرح على بقية القبائل غير المنضمة للنظام، بالابتئاس والخوف، في آن واحد، على مصيرها، إذا ما لم يلحقوا بالإمساك بالمفتاح السحري الملوّح به لحل مشكلات منطقتهم ونزاعاتها.
ووسط هدير أحداث سيناء المتلاطمة، تداعب خيالي وصية الراهب “هيبا” بالقيام بصلاة تطرد “عزازيل” اللعين، وتهدم قوى أعوانه من الأبالسة. وهناك طيف قريب من كلمة توماس سانكرا، رئيس دولة بوركينا فاسو، القتيل آخر الثمانينيات، ودعا فيها الأفارقة إلى التحلي بدرجة مناسبة من الجنون، ليقووا على تغيير أفريقيا، فهل لأهل مصر، بعدما تعذّر الحلّ “بجرعة من جنون سانكرا العذب القتيل”؟[/JUSTIFY]