احمد دندش

سيد اللبن.!

[JUSTIFY]والسكون يلف المكان، يلوح من على البعد (حمار الزبير) المثقل بـ(تمنات) اللبن، قبل ان يلوح (الزبير نفسه) وهو يركض ليمسك بالحبل القصير المتدلي من عنق ذلك الحمار (الغتيت).
دقائق تمر حتى تتحول الحِلة الى ساحة صاخبة عبر (ايقاعات) الزبير المختلفة التى يحدثها عبر ذلك (الخرطوش الاسود) على كل باب، وهو ينادي بصوته المبحوح: (ارح يااخوانا).
لازلت اذكر كيف كانت جدتي-عليها رحمة الله- تحرص على عدم إبقاء (الزبير) في الانتظار، وكانت تنهض بسرعة قبل ان تلقي بذلك (الجك الاصفر) على حجري الصغير، وهو تشير للباب قبل ان ترفق مع تلك الاشارة عبارة قصيرة: (قول ليهو رطلين).
مغامراتنا مع (سيد اللبن) في ذلك الزمان (السمح)، لم تقتصر على وضع (جك اللبن) على الارض وامساك اذن الحمار حتى (يستغيث)، بل كانت تتعدى ذلك لتشمل (تفريق الحبايب)، وهو مصطلح يعني إضاعة (الزبير) من حماره (الودود)، وذلك عبر اقتياده للجانب الآخر من الحي قبل ان نبدأ فواصل من التعذيب عليه تبدأ بربط قدميه بحبل سميك، وتنتهي بإطعامه لبعض (العيش الناشف) والذى كنا نقوم بخلطه بـ(الشطة)، والتى كنا نعتقد جازمين في ذلك الزمان انها تمتلك القدرة على تحويل حمار سيد اللبن الى (حمار وحش)…تخيلوا.؟
ذكرياتنا مع (سيد اللبن) نفسه لاتزال تحظى في دواخل الكثيرين منا ببراح متسع، فمن منا لم يطارد ذلك الرجل عبر الازقة، ومن منا لم يكلفه (خسارة فادحة) بعد ان يسكب مابداخل الآناء ثم يركض لداخل المنزل وهو يقسم لوالدته بأن (الحمار) هو من قام بذلك، ليجد (سيد اللبن) نفسه مجبراً على تحمل الخسارة وتعويض الاسرة بكميات اخرى من اللبن، فيما يحتفظ بـ(حق الرد) ليوم آخر.!
تعاملات (سيد اللبن) مع الاسر السودانية في ذلك الزمان ايضاً كانت تصيبنا بالحيرة ونحن اطفال، فكثيراً ماكنا نأخذ حوجتنا من الالبان دون ان نمنح ذلك الرجل (مليم واحد)، لنكتشف فيما بعد ان ذلك الرجل يمتلك مقدرة غريبة في الصبر على تحصيل نقوده، بينما كان يملك ايضاً مقدرة غريبة على احصاء كل (جغمة) لبن دخلت جوفنا في وقت سابق قبل ان يطرحها ضمن فاتورة (شفهية) مصحوبة بإبتسامة واسعة.
نعم…اليوم تغير ذلك الزمان…فلم يعد (الصبر) احدى صفات تلك الشخصية القديمة، وهو امر اكثر من عادي طالما تمت إحالة (الحمار)-رمز الصبر نفسه- للمعاش الاجباري، واستبداله بعربة (بوكس) باردة الاحساس، لااظن انها تثير اي (استفزاز) داخل اطفال اليوم، ولاتملك اي مقدرة على تحريك ساكنهم صوب اي (شقاوة محتملة) لأنها وببساطة احدى العناصر الجديدة التى عرفها مجتمعنا مؤخراً، والتى كسرت و(ببساطة) كل ذلك الكم الهائل من فواصل الطفولة التى كثيراً ماتجولنا بينها، وتعلمنا منها الكثير كذلك.
شربكة اخيرة:
عزيزي سيد اللبن…اريتك تبقى طيب.[/JUSTIFY]