تحقيقات وتقارير

الوطن عدل وديمقراطية و نظام


الوقوف على عتبة المستقبل لا يعني أنك لا تقف على عتبة الماضي، ولكن الباب يبقى أمامك لتدخل إلى “القليل المعروف” وتترك “الكثير المجهول” أو العكس، وخطوتك هي ما يعرّف كل شئ.
يُقال إن الشعوب لا تريد إسقاط النظام بل تريد إعلاء القيم المدنية الحقيقية التي تفتقدها، أو هكذا يجب أن “تريد” الشعوب الواعية من سكرة الغضب، وهكذا يجب أن تكون مستويات النظر، فليس الواجب أن يرفع الناس شعارًا للإسقاط بل أن يرفعو شعارًا للبناء، فالشعوب ببساطة تود العيش الكريم، والحرية واللقمة الهنية، ولا يوجد شئ حقيقي يجعلهم يكرهون النُظم غير ضيق العيش والذل و المهانة التي تسوِقها بعض الممارسات، وما انسَدّت الدّنْيا عليّهم لضِيقِهَا ولكنَّ طَرْفاً لا يرون بهِ (الديمقراطية والحرية والعيش الكريم أعمَى).
يقال أن العادة جرت أن تُسبق الثورات بحراك فكري يؤسس لها وتغيير كبير في المجتمع لا تجاريه النخب الحاكمة، فيتسبب عدم مجارات النخب للتغيير الكبير والحقيقي في الفكر إلى أن تنكسر دواليب العصي الحاكمة، وتنفلت منها لتعود لإيقاع يناسب طموحات الشعوب .
أيًا يكن من أمر، فإن الحديث عن ما سُمي بالثورات ليس جديدًا على الجمهوريات العربية ، فالدول الثائرة الثلاث، ثارت على ثوراتها القديمة، فـ 25 يناير، هزم ثورة يوليو، وتغيير 14 يناير نحى تغيير نوفمبر، وحتى 17 فبراير في ليبيا إنما تُعاصي ثورة الفاتح من سبتمبر. قد يصح الحديث عن أن الذي يحدث ليس بثورات، بدعوى أن سقوط الحكومات وقيامها بشكل متواصل أضر بهيبة الدولة في تونس هو ليس من الثورة في شئ، وأن توزيع ملفات الأمن القومي على الطرقات وبيعها بأبخس الأثمان في مصر ليس من الثورة في شئ، وأن العودة إلى علم الملكية التي ثارت عليها ليبيا لتثور إليها الآن ليس إلا بابًا للغرابة والاستعجاب بغض النظر عن صحته من عدمه، وكل ذلك وتواتره لا ينفي أن هناك قضايا حقيقية.
و أحتفظ بحقي في فهم الأحداث التي تمر بها دول شمال افريقيا وفق اعتبارات المؤامرة ومفهومها والتسييس والأيادي الخفية، ولكني أحتفظ للجماهير أيضًا بحقها في المطالبة بالعيش الكريم وبالضيق من القمع وموجبات الفقر من فساد وبطالة وغيرها، وقبل أن أحتفظ لنفسي وللجماهير فإن الكون يحتفظ بطبيعته التي سنت التغيير وتدعو إليه، وتبقى الأمور لله، وتبقى كل القراءات المتعجلة قراءات لا قَرار لها وقراءات لا قوام لها.
ما ترفعه الجماهير الغاضبة وما يرد به المسؤول الحكيم أو الطائش، أمر وما يريده الوطن أمر آخر، فالمسؤول الذي يعلل رفضه للثورة بأنها حُركت بـ – الأيدي الخفية وأجندة الدول العدوة أو المعارضة أو غيرها من الشماعات تحرك الجماهير- عليه قبل أن يرفضها أن لا يسمح لإحساس العوز والتوهان أن يرهن شعبه للأيادي الخفية و الأجندة والمعارضة، عليه أن يمد يده لمعالجة الإشكاليات الحقيقية التي يمر بها شعبه قبل الاتكال على سلطته في الدفاع عن ما يريد الدفاع عنه، عليه أن يستوعب أنه أقرب إلى شعبه من الأجندة، وأنه متى ما فسح البراح للمعارضة وللإصلاح فإن قاعدته ستقوى و أساسه سيمتن والوطن سيكون منيعًا على الأيدي الخفية.
الشباب، العاطلون عن العمل، الفقراء، الهائمون بلا جدوى، الذين ضُيق عليهم، وغيرهم هم من يجب أن تواجههم (أفعال) الأنظمة، وأن تجد لهم الحل، الأوطان لا تبنى بسياسة كيف يحافظ الحاكم على حكمه، والأمم لا تدار بسياسة كيف نسقط الحاكم، بل تدار عبر الحوارات واللقاءات الصادقة، لكيف يبنى سياج المعرفة وكيف نصنع لُحمة الوطن، وكيف نبقى سواء في أوطاننا الكبيرة، وكيف نعيش ما تبقى لنا من أيام بهدوء وأمن، لا أن تتعالى كل يوم أصوات الاضطرابات وأصوات البشر كل يصرخ بقوة فريقه و شرعيته.
السودان ليس بعيداً من الحمى، وإن كانت الأسباب تختلف والقراءات تتنوع، والتاريخ الأكثر نضجًا من تاريخ غيره يعطي القراءات أبعادًا أخر، وعلى الحاكم والمحكوم، و الموالاة والمعارضة، أن يضعوا قليلاً من الحكمة في فعالهم، وينتبهوا لمطالب الوطن، فلا تدجنها الحكومة ولا تجعلها المعارضة مطية، وينتبهوا لصوت العقل في هذه المرحلة من تاريخ الشعوب، والخطوة الوحيدة التي سيخلدها التاريخ هي خطوة الحوار الذي سيُنتج “العدل و الديمقراطية والتنمية والسلام”، هي خطوة الإصلاح الذي سيقضي على الفساد، هي خطوة منح الشعوب حريتها، هي خطوة عدم العداء مع أي كيان، هي خطوة الخط الثالث بعيدًا عن المشاحنة و قريبًا من العقلانية، لهزيمة السواد الحالك الذي يتهدد مستقبل السودان، قليلًا من الحوار بكثير من التنازل، جدير بأن يحل معضلات هذا الوطن.
[email]alnahlan.new@hotmail.com[/email] – عمر الترابي