تحقيقات وتقارير

تصفية شركات القوات النظامية .. هل يطول الانتظار؟!

حتى وقت قريب كان الحديث عن الشركات التابعة للقوات النظامية خطاً احمر وبمثابة المنطقة العسكرية التي يمنع الاقتراب منها وتصويرها، فسياج السرية الذي ضرب على النشاط الاقتصادي لهذه الجهات السيادية افرز ضبابية وشحاً معلوماتياً عنها، وحتى الذي كان يرشح من انباء ظل محل تداول داخل الغرف المغلقة وبعيدا عن اضواء الاعلام والرأي العام، وبالرغم من قرار الخصخصة الذي طالت رياحه منذ بداية العقد الماضي أكثر من مائة وخمسين شركة حكومية، غير ان هذه الرياح تكسرت امام سواتر القوات النظامية، التي تكشف مؤخراً عن امتلاكها لعدد كبير من الشركات الخاصة التي تدر عليها دخلاً وصفه عدد من الاقتصاديين بالضخم وانها توجهه نحو تأهيل وتطوير البنى التحتية للمؤسسات العسكرية والامنية والشرطية بالرغم من أن 70% من الموازنة تذهب ناحية الامن والدفاع حسبما تشير الدولة؟؟؟.
واخيراً فتح المراجع العام باب الجدل على مصراعيه حينما اشار امام المجلس الوطني ان هناك «23» شركة حكومية جزء كبير منها يتبع للقوات النظامية رفضت المراجعة. ..وهذا الاعتراف الذي جاء من اعلى جهة مراجعة ومراقبة في السودان سلّط الاضواء على هذه الشركات التي يرى البعض ان وجودها امر فرضته ظروف البلاد التي ظلت منذ تولي الحكومة الحالية للسلطة تتعرض لمهددات امنية، وان هذا حتم عليها تقوية المؤسسات العسكرية المختلفة وكذلك جهازي الشرطة والامن والمخابرات الوطني وذلك عن طريق توفير المكون المادي الذي يعينها في توفير المتطلبات اللوجستية والايفاء بمخصصات منسوبيها عطفاًَ على تطوير بنيتها التحتية. ويعتقد أصحاب هذا الرأي ان موارد الدولة مع اولوياتها المختلفة ليست كافية للايفاء بحاجة القوات النظامية التي عمدت الى انشاء شركات خاصة تعمل في مجالات مختلفة وذلك من أجل زيادة الموارد التي تعينها في مواجهة عملية الدفاع والامن التي وصفوها بباهظة التكاليف، ويعتبر هؤلاء ان امتلاك القوات النظامية لشركات خاصة امر شائع في كل دول العالم وان السودان ليس استثناء. واكدوا ان الامر طبيعي تفرضه ضرورة الحفاظ على أمن البلد… على النقيض من هذا الرأي يقف على الضفة الاخرى من النهر أصحاب رأي مخالف تماما في نظرتهم ازاء الشركات الخاصة التي تنضوي تحت مظلة وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الامن والمخابرات الوطني، ويشيرون الى ان الدولة اعلنت ان «70%» من الموازنة العامة تذهب للامن والدفاع وان هذه النسبة تعد كافية لمواجهة احتياجات الاجهزة العسكرية المختلفة، التي رفضوا مبدأ ان تكون لها شركات خاصة لا تطالها يد المراجع العام و تشملها سياسة الخصخصة، وعبروا عن بالغ دهشتهم من التنامي المطرد لاعداد هذه الشركات التي قالوا بانها أضحت تعمل في المجالات الاقتصادية كافة، في وقت تخلصت فيه الدولة عن مرافق اكثر اهمية، وقامت بخصخصتها، وتساءلوا عن أسباب الامتيازات والاستثناءات والاعفاءات التي تحظى بها هذه الشركات، وعن الاثر السالب الذي تفرزه هذه السياسة على القطاع الخاص، وطالبوا بأن تتم تصفيتها اسوة بالشركات الحكومية الاخرى.
ويبرز هنا السؤال المهم الذي يردده الكثيرون هل ينطبق على هذه الشركات ما ينطبق على الشركات والمرافق الحكومية الاخرى؟..يجيب الخبير الاقتصادي الدكتور عادل عبد العزيز بالايجاب ويؤكد تبعية هذه الشركات لوزارتي الداخلية والدفاع وجهاز الامن وان هذه الجهات حكومية ولا جدال حول ذلك، وان هذا يعني تبعية الشركات الخاصة التي تمتلكها الاجهزة العسكرية والامنية وهذا يعني ضمنياً ان ما ينطبق على الشركات الحكومية ينطبق عليها، وقال ان هناك قرار صدر من وزارة المالية يقضي بتصفية هذه الشركات وان الوزارات التي تتبع لها وفي اطار مؤسسية الدولة ستعمل على التصفية بكل تأكيد، غير أن الخبير الاقتصادي اشار الى ان هناك شركات في مجال الأمن تستعمل كسواتر امنية واستخباراتية محددة، ووصفها بالشركات غير العادية والتي يتم انشاؤها لاهداف محددة وتتم تصفيتها بانتهاء اجلها وتحقيق أهدافها. ..وسؤال آخر يتمحور حول أسباب رفض عمل الشركات الخاصة التي تتبع للجهات العسكرية والمطالبة بتصفيتها، يوضح استاذ الاقتصاد بجامعة البحر الاحمر د. طه بامكار الاسباب ويقول: الدول المتقدمة وحتى الموجودة في المنطقة العربية تعمل دائماً على دعم القطاع الخاص وذلك لانه يملك القدرة على توفير متطلبات المواطن ويفتح فرصاً واسعة للايدي العاملة كما انه يسهم في النمو الاقتصادي ورفد خزانة الدولة، وفي سبيل ذلك تخرج الحكومات من العملية الاقتصادية وتلعب دور المشرع والمنظم والمشرف ولا تقدم على خطوة منافسة القطاع الخاص، ولكن في السودان ورغم رفع شعار الخصخصة نجد ان القوات الأمنية اصبحت تمتلك شركات خاصة متعددة الاغراض وتعمل في مختلف المجالات مما شكل هذا منافسة غير متكافئة الاركان بينها والقطاع الخاص، وهذه الشركات تستمد قوتها الاقتصادية من الهيبة والمكانة التي تحظى بها أجهزة الشرطة والجيش والامن الوطني وهذه الخاصية تكفل لها التفوق على شركات القطاع الخاص التي يصيبها الضرر جراء وجود هذه الشركات التي لا بد ان تخرج من السوق وتتركه للقطاع الخاص وان تترك الدولة ادارة الاقتصاد لاهله وليس بالطريقة الامنية الحالية وذلك حتى يزدهر القطاع الخاص الذي يعتبر أهم ركيزة في الاقتصاد.
ويوجه القطاع الخاص وعدد من الاقتصاديين اتهامات مباشرة ناحية شركات المؤسسات العسكرية ويشيرون الى انها تستند الى نفوذها في العمل الاقتصادي وتنافس القطاع الخاص في المجالات الاقتصادية كافة، وعلى رأسها التجارة والاستيراد والتشييد والطرق والكباري والجامعات والصحة، و الاستثمارات الصغيرة والكبيرة كافة، وانها تحظى بمعاملة خاصة في العطاءات ولا يمكن منافستها ،وفي هذا الصدد يؤكد الفريق شرطة عثمان فقراى ضرورة وجود اجسام اقتصادية تكون بمثابة الرافد لخزانة المؤسسات العسكرية، وقال انه في الماضي لم يكن هناك استثمار بشكله الحالي تابع للشرطة التي كانت تعتمد على الجمعيات التعاونية كاستثمار محدود يوفر احتياجات منسوبي الجهاز ويحول بينهم والانحراف عن قيم الشرطة، ويضيف: ولكن مؤخراً حادت الشركات التي تتبع للجهات الامنية والعسكرية عن الطريق وباتت تشكل خطورة بالغة على القطاع الخاص بولوجها لابواب الاقتصاد المختلفة، مما جعل الانظار تتجه نحوها وطالتها سهام النقد والاتهامات، فالبعض يعتبرها لا تخضع للمراجعة وانها تتهرب وترفض دفع الضرائب والرسوم المختلفة وغيرها من اتهامات ما كان لها ان تطالها لولا دخولها في مجال ليس من صميم واجباتها وتخصصها.
وكانت اتهامات أخرى قد طالت هذه الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية والشرطية والامنية مفادها التحايل على المراجع العام بحجة ان بعض هذه الشركات ليست عامة ومسجلة لدى مسجل الهيئات على اعتبار انها خاصة تجنيب الايرادات وغيرها من اتهامات . وفي تصريح سابق للدكتور بابكر محمد توم اشار الى ان هناك شركات حكومية غير مسجلة رسمياً وان بعضها تم انشاؤها دون معرفة وزارة المالية ولا تعرف الجهات التي تتبع لها، ومن جانبنا حاولنا معرفة عدد الشركات التي تتبع للقوات النظامية فلم نتمكن ولكن قدر مصدر عدد الشركات التي تتبع لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ما بين خمس الى عشر والتي تتبع للشرطة ما بين عشر الى «15»، اما تلك التابعة لقوات الشعب المسلحة او فلنقل وزارة الدفاع فتبلغ ثلاثين بحسب الدكتور الفاتح عز الدين في حديث لبرنامج حتى تكتمل الصورة بقناة النيل الازرق قبل «21» يوماً.
ويرى الدكتور عادل عبد العزيز ضرورة خروج الشركات الحكومية، المختلفة من مجالات الاقتصاد العادية كالتجارة والخدمات والسياحة والنقل، وان يتوحد القطاع الحكومي في شكل شركات ضخمة تعمل في مجال الصناعات الثقيلة وكتلك التي تحتاج لتراخيص خاصة «الاسلحة»، أوالتي تحتاج لرأس مال ضخم في البداية كالسدود والمشاريع العملاقة على ان تخرج شركات الدولة بعد تنفيذ هكذا مشروعات ضخمة وتتركها للقطاع الخاص. ويضيف: وجود شركات حكومية في غير المجالات الضرورية والمهمة كالتي ذكرتها آنفاً يحدث تشويهاً للاقتصاد وذلك لان المنافسة لن تكون عادلة في ظل النفوذ الذي تتمتع به شركات الدولة وتهرب بعضها عن دفع الضرائب وغيرها من التزامات تقع على كاهل القطاع الخاص وحده، وفي ذات الوقت تتحصل الشركات الحكومية على العطاءات علاوة على انها تستفيد من مقار الدولة لتمارس انشطتها الاقتصادية، وهذا يجعل الكفة تميل لصالحها على حساب القطاع الخاص المجابه بالضرائب والجمارك والرسوم المختلفة، وحول ولاية وزارة المالية على مال الشركات التي تتبع للجهات العسكرية أكد ولايتها على كل المال العام بالدولة لانها المالك لاصول الدولة والاموال السائلة والمملوكة لاية جهة حكومية، وأكد الدكتور عادل عبد العزيز مسؤولية الدولة في الانفاق على الامن والدفاع بصورة مباشرة وليس عن طريق انشاء وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الأمن لشركات خاصة تغطي عجزها المالي.
وكان محافظ بنك السودان ووزير الدولة السابق بوزارة المالية الخبير الاقتصادي الشيخ سيد أحمد وفي حوار سابق مع الصحافة اشار الى ان الشركات المملوكة للدولة ليست مدخلا للفساد فحسب بل أعتبر وجودها في الأصل ضرباً من الفساد وأضاف: مجرد قرار إنشائها هو الفساد بعينه حتى لو لم تفسد وتساوت مع الآخرين بعد حصولها على امتيازات لأن وجودها ضد سياسة التحرير المعلن عنها التي أولى أبجدياتها نقل الحركة الاقتصادية إلى القطاع الخاص وقد خصصت الحكومة وباعت كثيراً من المؤسسات التابعة لها مثل سوداتل والخطوط الجوية السودانية والنقل النهري والبحرية ومن بعد ذلك تنسيء شركة تعمل طعمية أو سكر أو تبني شارع زلط فهذا، يوضح أن الحكومة لا تعرف ما تتحدث عنه أو تعرفه ولكن في غياب الرؤية الشاملة وفي غياب الشفافية والعدالة تريد أن تعمل تحت الشعار والسياسة التي طرحتها ما شاءت .وأضاف :أما الجانب الآخر الخاص بالاحتكار فسهل جدا لأنه يمكن أن يأتي متنفذ وزيرا أو غيره وتحت حجة عدم ذهاب الربح المعين من أي مشروع يقول إنه يريد أن يعود إلى القطاع العام ولنفترض ذلك فهو إما أن يعطي الجهة الحكومية امتيازاً والامتياز الأكبر ليس بإعفائها من الضرائب لكن بأن يشوب ممارسة فرض الضريبة عليه يكون فيه الفساد مما يوقد لخلل البيئة التنافسية أو حتى على مستوى إعلام الجهة الحكومية بتوقيت عطاء معين يحتاج لوقت لترتيب الأوضاع والتجهيزات للدخول فيه فترتب نفسها قبل الآخرين فتظفر بالعطاء بكسبها لعامل الوقت والتجهيز المسبق قبل الآخرين وفي ذلك ضرب من الفساد البين مما يقلل المنافسة وبناء العدالة والكفاءة والشفافية حيث أن كثيراً من العطاءات والمزادات مفصلة على جهات معينة وتشريح كل حدث إذا أمسكت به تجد فيه كثير من الخروقات والممارسات الخاطئة الفاسدة ولعلم الجميع أنه لم يعد هناك احتكار 100% على مستوى العالم لكن يمكن ببعض الممارسات الخفية أن تتيحه لبعض الجهات بنسب متفاوتة قد تصل إلى 70% من خلال تقوية مواقفها وتقويتها على إقصاء المنافسين لها من خلال الاحتكار أو عدم الشفافية وللأسف عندنا ليس لدينا قانون لمحاربة الاحتكار وحتى لو وجد ليس هناك من يطبقه إذ أنه لم نسمع أن قيل للرأي العام أن هؤلاء محتكرون تم ضبطهم ومحاسبتهم أو معاقبتهم لو لمرة واحدة . وهناك أشياء أخطر من الاحتكار.
ويرى قيادي باتحاد اصحاب العمل(فضل حجب اسمه) أن تقوية الاجهزة الامنية ضرورة لابد منها وذلك لأن هيبة السودان يستمدها من قوة دفاعه وامنه ،وأكد أنهم لايرفضون أن توجه 70% من الميزانية نحو الأمن والدفاع غير أنه كشف عن تأثر القطاع الخاص بوجود شركات تابعة للقوات النظامية تتمتع بنفوذ واسع واعفاءات كبيرة ،واعترف بعدم قدرتهم على مجاراتها ،وشدد على ضرورة تصفيتها مؤكدا استعدادهم للمساهمة في دعم الاجهزة التي تحمي الوطن اذا ماطلب منهم ذلك معتبرا ان هذا واجب وطني ،وجدد مناشدته بخروج كل الشركات الحكومية من العملية الاقتصادية وترك المجال للقطاع الخاص حتى يستعيد مكانته التي فقدها مؤخرا بسبب الشركات الحكومية التي قال إنها تضايقهم وتعمل في كل انواع الاقتصاد والتجارة.

الصحافة