المياه الملوثة .. المياه «العشوائية» بالأسواق تنقل التهاب الكبد الوبائي والكوليرا والتايفويد
حكاية «كليمنت»
«كليمنت» شاب في الخامسة والعشرين من العمر يقطن محلية امبدة منطقة «ام نيران» مهنته «طلبة» في مجال البناء تحتم عليه تناول أكبر قدر من ماء الشرب باعتباره يقوم برفع حمولة «المونة» الى المعلم بصورة يومية. عندما يتعذر عليه توفير ماء صالح للشرب يتناول مياه الآبار والخزانات المصممة من الاسمنت والطوب الاحمر الخالية من الغطاء التي يتم بناؤها لتوفير مياه البناء، ونسبة لشح الماء بالمنطقة التي يقيم فيها فانه يجلب المياه من الباعة الجائلين «بعربات الماء» داخل الاحياء ويستخدمها في كل احتياجاته على مدار السنة.
في صباح يوم انتابت «كليمنت» آلام حادة اسفل البطن، في البداية لم يعر الأمر اهتماماً واعتبر ذلك ألماً عرضياً ناتجاً عن ارهاق العمل وتوقع ان يزول سريعاً الا ان الاعراض دهمته مرات عديدة بصورة لم يستطع معها تحمل الالم فقصد الطبيب للاطمئنان على صحته وبعد اجراء الفحص تفاجأ بأنه مصاب «ببلهارسيا بولية» مزمنة سببها الاساسي تناول ماء ملوث. حالياً كليمنت طريح الفراش بمستوصف بامبدة يتلقى العلاج.
أحذروا هذه المياه
الحالة التي يعاني منها كليمنت تتكرر بصورة يومية لاعداد كبيرة من المواطنين الذين يتناولون ماء شرب غير صحي من بعض المصادر المتمثلة في اماكن التجمعات او من باعة ماء الشرب بالاسواق ومواقف المواصلات التي يقف على بيعها اطفال تتراوح أعمارهم بين «13- 17» سنة ومن خلال فحص عينة من تلك المياه بأحد المعامل الطبية بالخرطوم للتأكد من سلامتها اتضح انها تحتوي على ميكروبات وطفيليات مسببة لامراض خطيرة وبنسبة «60%».
عملوها في أنفسهم
في ظل القطوعات المتواصلة للامداد المائي في عدة احياء بالخرطوم اعتمد المواطنون على خزانات حفظ المياه بمنازلهم لمجابهة شح المياه ولكن هل كان المواطنون يداومون على تنظيف خزانات المياه حرصاً على صحتهم؟ هذا السؤال جاءت اجابته من خلال استطلاع قامت به «الرأي العام» استهدف سكان وسط الخرطوم حيث اتضح ان نسبة الأسر التي تقوم بتنظيف خزانات المياه المنزلي كل خمسة اشهر على الاقل «19.5%» فقط، اما باقي السكان فتزيد مدة نظافة الخزانات عن العام واتضح من الاستطلاع وجود تلوث في مياه بعض الخزانات المنزلية ناتج عن عدم تنظيف الخزانات بصورة دورية. ويواجه هؤلاء المواطنون صعوبة في تنظيف الخزانات ويقترحون ضرورة تشغيل عمالة متخصصة في مجال نظافة الخزانات المنزلية شريطة ان يحملوا بطاقات صحية وباشراف من ادارات الصحة بالمحليات او شركات خاصة مقابل مبلغ مالي معقول لتقليل أمراض مياه الخزانات المنزلية وتوفير ماء صحي ونقي للأسر.
القواقع والحلزونات
عموماً فان الماء وبحسب دراسات علمية صادرة من مركز الابحاث بجامعة الخرطوم لها دور مباشر في تفشي أخطر الامراض واستناداً لافادة الدكتور عبد العزيز عبد الرحمن – مدير مركز البحوث بجامعة الخرطوم – يأتي داء «البلهارسيا» في قائمة أمراض المياه اذ يحدث انتقاله عند توافر المسطح المائي الذي يحتوي على العوائل الوسيطة للبلهارسيا «القواقع والحلزونات» وحجم كثافة النشاط المائي للانسان لهذا المسطح ويعتبر اطفال المدارس أكثر شرائح المجتمع تعرضاً لهذا الداء.
فيما قسم الدكتور ابراهيم حسن أحمد- اختصاصي الباطنية.. ومتعاون بعدة مستشفيات خرطومية – الامراض المعدية التي تصيب الأفراد بسبب المياه الملوثة الى مجموعات مختلفة عبر انتقال الجراثيم والميكروبات بشكل مباشر مع شرب الماء خاصة تلك التي يتم تناولها عشوائياً بالأسواق وتحتوي هذه المجموعة على طائفة متنوعة من ناقلات الامراض بعضها بكتيري مثل التي تسبب «الكوليرا- الدوسنتاريا- التايفويد» وغيرها من الامراض الاخرى، والبعض منها فيروسي مثل فيروس شلل الاطفال «والتهاب الكبد الوبائي وفيروس النزلات المعوية» الحادة وهذه تنتقل بالاستخدام المشترك لاوعية الماء بين المصاب والآخرين. أما في مجموعة الطفيليات التي تنتقل عن طريق الماء فهناك أمراض مثل البلهارسيا والديدان الشريطية والاسكارس وهذه القائمة المختصرة تظهر مدى التنوع الهائل في أنواع الميكروبات والجراثيم التي تستخدم الماء كباب خلفي لغزو الجسم البشري واستخدامه للنمو والتكاثر مسببة العديد من الأمراض والعلل.
واسترسل د. ابراهيم في حديثه عاكساً حجم المشكلة، وقال: يغيب عن الكثيرين مدى فداحة الثمن الانساني لهذه الأمراض وهو الذي يتضح من حقيقة ان الاحصائيات والتقديرات تشير الى ان أكثر من «500» شخص بولايات البلاد كافة يلقون حتفهم سنوياً بسبب الأمراض المنقولة بواسطة الماء، بل إن واحداً فقط من تلك الامراض «الاسهال» يعتبر وحده مسؤولاً عن وفاة اكثر من «300» طفل سنوياً بالسودان، واضاف يمكن رد هذه المأساة الانسانية الى اسباب عدة منها الاولويات الخاطئة لسياسات الصحة العامة، وبطء العمل في تطوير نظم الصرف الصحي وبخلاف اختلال أولويات الانفاق توجد مشكلة أكبر من شأنها ان تزيد عدد ضحايا الامراض المنقولة بالماء خلال العقود القادمة وهي ازمة المياه العذبة.. فهناك اعداد كبيرة من المواطنين يعيشون حالياً تحت خط العوز المائي الشديد، هذا الفقر المائي جعلهم مضطرين الى استهلاك مياه ملوثة خاصة في الصيف لسد احتياجاتهم وهو ما أدى بالضرورة الى زيادة اعداد من يفقدون حياتهم بسبب أمراض المياه، واعتبر د. ابراهيم تحرك المصابين بالامراض المزمنة من مكان الى آخر سبباً مباشراً في ازدياد تفشي الأمراض مما ادى الى خلق مشاكل أكثر ضراوة.
ونوه الى انعكاس تأثير أمراض المياه على الحالة الاقتصادية للمواطنين حيث يواجه المصابون صعوبة في دفع تكاليف العلاج لا سيما وأنهم يواجهون عبئاً مالياً ضخماً خاصة في المدن الاقل نمواً وتحدث في الغالب خسائر مالية لتوفير تكاليف العلاج الطبي والادوية، فالعديد من الأسر لجأت لبيع منازلها واراضيها لدفع تكاليف العلاج في مستشفى مناسب.
من أجل المكافحة
أجمع مديرو الصحة بالمحليات بوجود انخفاض في مستوى الوعي لدى معظم السكان في مختلف الاحياء بأهمية العناية بنظافة خزانات المياه. وأرجع «عبد الرحمن أحمد» – ضابط صحة محلية كرري – الامراض الناتجة عن خزانات المياه المنزلية مسؤولية خاصة باهمال الاسر لنظافة الخزانات بصورة دورية مما ينعكس على نوعية المياه المخزنة فيها حيوياًَ وكيميائياً وفيزيائياً.
وأكد دور المحليات في ازالة كافة السلوكيات التي من شأنها ان تتسبب في اضرار صحية للسكان عبر الحملات المستمرة التي تقوم بها، ومال الى اهمية رفع مستوى الوعي الصحي مع ضرورة وضع برامج وتفعيلها لتعليم المواطن أهمية المحافظة على مياه الشرب وان تتولى مصلحة المياه والصرف الصحي هذا البرنامج لتقليل نسبة الامراض.
هيئة المياه
توفير مياه صحية من اختصاص هيئة مياه الخرطوم وفي هذا الجانب افاد نزار بابكر مسؤول العلاقات العامة بالهيئة لـ«الرأي العام» بأن الهيئة تسعى لتأمين مياه آمنة للمستهلكين كماً ونوعاً من منظور انها توسعت في عمل شبكات مياه جديدة باطراف الولاية وحسب حديثه انها ستسهم في تقليل نسبة الاصابة بالامراض الناتجة من شح الماء او استخدام الماء المعرض للتلوث.
واضاف: الآن وصلت مصادر المياه النقية كل اطراف الولاية، وهناك خطة تهدف الى التخلص من الشبكات القديمة وتوسيع بعض الشبكات في المناطق الطرفية لتوفير مياه شرب نقية للمواطنين كافة.
في هذا الاطار توحد اتجاه الجميع في تفضيلهم لعمل خطة وبائية طويلة المدى لمكافحة الامراض والعمل على مراقبة معدلات الاصابة بفاعلية مع اجراء مسوحات يبنى عليها اتخاذ القرار المناسب فيما يختص بفعاليات المكافحة بجانب تزويد المواطنين المتضررين من الأمراض المائية بامدادات كافية من المياه المأمونة لاغراض الشرب والنظافة الشخصية وحماية مصادر المياه من التلوث.
[/JUSTIFY]
صحيفة الرأي العام