تحقيقات وتقارير

سودانية أبيي كما هي حلايب

[JUSTIFY]لنبدأ على عكس العنوان أعلاه بمناقشة قضية حلايب التي أثار الإعلان عن زيارة منطقتها ضمن زيارة رئىس الجمهورية لولاية البحر الأحمر..! جدلاً واسعاً أدى الى تعكير مزاج الساسة في كلا الجانبين، وأعني السوداني، والمصري، ممثلاً في وزيري الخارجية، حتى غلا وزير خارجيتنا، واتهم صحافتنا بفقدان الدقة والنقل دون اكتراث، وقد كتبت محذراً من التغاضي عن وضع الحلول الجذرية لمشكلة مثلث حلايب باعتباره محكاً سياسياً يعترض سير العلاقات الطبيعية بين البلدين كلما اختلف الساسة في طرفي الوادي، واعتقد جازماً بأنه ما لم تفتح الصدور وتعي الآذان فإن مشكلة «المثلث» ستطل برأسها في كل مأزومة بين البلدين.. وتبقى فرصة الحكومتين الآن وافرة، ومجيدة وقد لا تتكرر إن تركت المسألة على حالها هذا دون حسم لها، ووضع حل ناجز يتراضى عليه البلدان ودون تأخير.

فالوضع اليوم في مدينة حلايب، ومثلثها على الخارطة يشير بوضوح لا لبس فيه أن القوات المصرية في المثلث تمثل قوة «إحتلال» لأرض غير مصرية، وهي سودانية مئة بالمئة، تاريخياً وجغرافياً وديمغرافياً، وضرورة عدول الحكومة -حكومة الثورة- ضرورة لا مناص ولا حيدة عنها لأجل علاقات واثقة وممتدة وطبيعية بين القطرين الشقيقين. فالمثلث تسكنه قبائل البشاريين وهي قبائل سودانية غير مشتركة بين البلدين، وإنما هي من القبائل الجازرة في منطقة شرق السودان، وكون المثلث يقع شمال خط «22» فإن ذلك لا يعني ان تكون الحدود بالمسطرة، وإلا فإن المنطقة جنوب خط «22» عند منطقة النيل والسد العالي فإنها منطقة سودانية، بجانب ان هناك تفاهماً على أغلب ظني بين حكومة الاحتلال البريطاني، والحكومة المصرية آنذاك عند الاعتراض على منح هذه المنطقة للدولة المصرية، باعتبار أن جزءاً من قبيلة العبابدة، تسكن السودان، وبالتالي فإن هذه المنطقة يجب ان تتبع للسودان، فأثار الجانب المصري منطقة المثلث «حلايب» باعتباره داخل الحدود المصرية.. وهكذا جرى الإتفاق بين دولتي الحكم الثنائي على تبعية مثلث حلايب للسودان، والمنطقة التي يسكنها العبابدة جنوب خط «22» لمصر، وانتهى الخلاف على ذلك.. ولم تثر المسألة مرة اخرى إلا عندما اعتبر الزعيم جمال عبدالناصر مثلث حلايب وشلاتين دائرة جغرافية ومصرية، وحرك قواته تجاههما عند تولي الأميرالاي عبدالله خليل رئاسة الوزارة في السودان نيابة عن حزب الأمة، وأدى الخلاف حولها لانسحاب القوات المصرية بقرار من حكومتها، وتقديم حكومة عبدالله خليل لشكوى لمجلس الأمن..

والأمر بالأمر يذكر فإن السودان كان أريحياً مع مصر عندما فكرت حكومة عبدالناصر في إنشاء السد العالي، وقررت الرسومات التخطيطية إفراغ منطقة وادي حلفا من سكانها تماماً لتغمر مياه وبحيرة السد المنطقة بكاملها، ولم تدفع الحكومة المصرية تعويضاً يذكر لا للسودان ولا للأهالي بصورة تكافيء صنيعهم، وربما كانت هناك تفاهمات على اقتناع الجانب المصري بتبعية منطقة حلايب وشلاتين للسيادة المصرية في مقابل المنطقة التي ستغمرها مياه السد العالي، والسودان حينها لا ناقة له ولا جمل في المشروع «المائي العظيم».. وعليه فإنه من الأكرم للبلدين تسوية النزاع في مثلث حلايب حتى ولو أدى ذلك للجوئهما لمحكمة العدل الدولية، وليقدم كل طرف أسانيده وبراهينه على تبعية المنطقة له.. حتى لا يفسد الخلاف عليها مجدداً للود قضية، فإن حديث الأمين العام لمؤتمر البجا المستقيل موسى محمد احمد يبقى صحيحاً، في حوار جريدة «الحرة» معه أخيراً، في أنه يجب ابتداء حسم قضية تبعية المثلث أولاً ثم التفكير في مسألة التكامل في المنطقة حتى لا تضيع حقوق أصحاب المصلحة من المواطنين المتضررين جداً من مشروع تمصير المنطقة.

أما في ملف «أبيي» فإن الأمر فيما يبدو شائكاً مع الجار الجديد، وإني جد مستغرب من دعوة بعض السياسيين في المعارضة لسحب القوات المسلحة من المنطقة، وإفساح المجال مجدداً لعبث الجيش الشعبي وحركته في المنطقة مرة اخرى والعمل على ضياع حقوق المسيرية فيها، وإن كان لهم جهد لإصلاح ذات البين فإنه يجب ان يوجه لنصح الحركة الشعبية وجيشها الهمام، الذي سيدمر أول ما يدمر بلاده الجديدة، بحماقاته، وأحقاده الدفينة.. وأبيي كمنطقة تقع شمال حدود «1956/1/1م».. الحدود المتفق عليها في إتفاقية نيفاشا «البائسة» التي اجارتنا من الرمضاء بالنار، وأحالت أيامنا بؤساً وشقاء.. حتى طغى وتجبر علينا إذلال العالم.. باسم الترويكا أو شركاء إىقاد، حتى دول لم ترق لهامتنا يوماً أضحت بين عشية.. وضحاها.. شريكة لنا في أمرنا تحكم لنا أو تحكم علينا.. المهم فإن معارضة السودان المراهقة ما زالت تحتاج لمن يرشدها لوعيها الوطني، ويلقي في روعها حب الوطن.. ولا تزال في إثمها القديم.. وترى أنها أحق في حكم البلد، وهم أسيادها، وللغرابة فإن الدعوة تأتي هذه المرة من زعيم حزب الأمة القومي، والذي يفترض ان المسيرية أو جزءاً منهم تمثل جانباً من قواعده الحزبية.. ولا نفهم على وجه التحديد كيف يكون لـ«دينكا نقوك» الحق في تبعية المنطقة وهم الذين نزحوا للمنطقة بأوامر استعمارية في العام 1905م.. عند خلافهم مع إخوانهم في بحر الغزال ليقاسموا المسيرية الذين استوطنوا المنطقة قبل اكثر من ثلاثمائة عام، وهي منطقة رعيهم الخصيب شتاء، وهل جزاء أنهم استأمنوهم عليهم ان «تخرج جدادة الخلا جدادة البيت»، وتطردهم منها لأنهم رعاة، وليسوا زراعاً، والأعجب من ذلك ان تفسير الاستفتاء على مصير المنطقة يكون بيد الدينكا لا المسيرية، وكأن مشيخات الدينكا أنقوك هم أعراسها، وقد تنكروا للملح والملاح جرياً على عادة الأولاد -أولاد قرنق- في قيادة الحركة التي لم تتصور أنهم سيكونوا غرباء على جذورهم التي تربوا فيها، وللأسف كانوا الصوت العالي والأحرص على الإنفصال لا الوحدة.. مع انهم عاشوا في كنف الشمال، وتعلموا في الشمال. إذ أن على دينكا أنقوك.. ومشيخاتها..

ومشايخها حزم امتعتهم والعودة لجذورهم في بحر الغزال بدلاً عن استحقار الشمال، والمساومة على حق لا يملكون فيه من قطمير.
ولكن العتب ليس على الدينكا أنقوك ولا أولاد قرنق، بل العتب على حكومتنا التي رضخت لكل ذلك ورضيت بإدراج المناطق الثلاث ومنها أبيي بالطبع في إتفاق منقوص قرروا فيه دون علم ودراية على اعتبار واحد لا ضمان فيه ان الاتفاق مآله الى وحدة بلاد السودان بنهاية الأمر حتى ولو تبعت أبيي جنوباً.
وها هو السحر ينقلب على الساحر، وجات «اللطمة بالغة»، وعادت حليمة لعادتها القديمة، والمنطقة تكاد ترجع بالبلاد لمربع الحرب من جديد لعدم تحسبات الحكومة لمآلات الأوضاع في البلاد لما هي عليه الآن.
إن أي تراجعات اخرى من الحكومة اليوم لن تكون مقبولة بحال، وسينفلت الأمر من يدها تماماً إن هي تراخت عن خطوات بشأن أبيي أو جبال النوبة والنيل الأزرق، وستسهم في تفكيك بقية السودان جملة واحدة إن هي فرطت في سيادة الوطن على أراضيها، ومن حقها اليوم ان تساوم على منطقة أعالي النيل باعتبارها تشكل خرقاً على الأمن القومي مستقبلاً.. حتى وإن اقتضى ذلك العودة للحرب وحينها ستكون حرباً مقدسة لا حرباً داخلية بين جهوية أو مناطقية مطلبية.. بل ستكون حرباً للدفاع عن الأرض التي دونها نهر من الدماء يسيل.. لمن لا يرعوي!!
[/JUSTIFY]

صحيفة الرأي العام