مقالات متنوعة

جرة القلم وجرة الفول


[ALIGN=CENTER]جرة القلم .. و .. جرة الفول[/ALIGN] [ALIGN=JUSTIFY]كنت إلى وقت قريب كغيري من أبناء الأمة العربية أعتقد أن حبة الفول ليست سوى ذلك المكوِّن الشعبي للطبق الصباحي الشهير أو الطابور الرمضاني الطويل ، صاحبة الشعبية الجارفة ، والجماهير العريضة ، التي لا تفرق بين الكبير والصغير ، ويتساوى عندها الغني والفقير ، عمدة الموائد وقبلة الأيدي والسواعد ، حتى جمعني القدر بتلك الحبة في مطعم الجرة الذهبية ، ففغر لها فاهي وفرصعت لها عيوني ! فبينما أنا أداعب صحني منها بحبة من ملح ورشة من كمون وصبة من زيت ، إذ تظهر لي تلك الحبة صارخة في وجهي (اتق الله) وتوقف عن هذا العبث الطفولي ، فقد أثرت حساسيتي وجعلتني لا أتوقف عن العطاس ثم ( آتشي ) ! .
كدت أطير من الكرسي وأخذت أبحث عن نفسي ، فالموقف بدون أكل الفول يؤدي إلى التناحة ، فما بالكم وقد زلطت بعض اللقيمات ؟ لا شك أن الطامة ستكون أكبر والحالة ستكون أخطر ، أخذت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأقرأ ما أسعفتني ذاكرتي من الآيات والذكر الحكيم كي أصرفها عني ، ولكنها أخذت تصرخ في وجهي مرة أخرى قائلة : اهدأ .. اهدأ قليلا حتى أستطيع التحدث معك !.
طبعا لن أحدثكم عن الجو العام في مطعم الجرة الذهبية ، رجلٌ ينظر إلى صحن الفول وتصدر منه كل هذه التصرفات ! لا بد أن المفعول السحري لهذه النبتة العجيبة قد أخذ يسري في دماغه ، أو أن به مساً من الجنون أو أنه يعاني من شيء ما ، المهم دعونا من كل أولائك المتطفلين الذين تخدعهم المظاهر ولا تعنيهم المخابر ، فبدلا من أن يقتربوا مني ليشاهدوا الحقيقة بأم أعينهم ، أخذوا يُصدرون أحكامهم الاعتباطية من على بُعد ، ويفسرون الأمور على هواهم ووفق أمزجتهم ، وكأني بهم لا نَوَال خيرهم ولا كفاية شرهم .
أعود لبطلة المشهد (حبة الفول) التي أحست بحراجة الموقف الذي وضعتني فيه ، فطيبت خاطري ببضع كلمات وقالت لي : حاسب عن صحنك ودعنا نذهب لمكان آخر كي أحكي لك حكايتي ؟! اطمأنت نفسي وهدأ خاطري ، وانطلقت معها تاركا أولائك المستفولين يرسمون مشهدهم الحضاري في شراء وتناول الفول ، وبعد أن قطعت مسافة لا بأس بها بعيدا عن أعين الفضوليين طلبت مني أن أوقف سيارتي إلى جوار أحد البساتين التي كانت تشتهر بها مدينتي ، وبدأت تسرد علي قصتها الغريبة .
فهذه الفولة أيتها السيدات والسادة ليست سوى إنسان بسيط مثلنا … لا يعرف من الخطوط إلا المستقيمة ، ولا يعرف من الألوان إلا الأبيض والأسود ، ولا يسمع من الأصوات إلا صوت الحق والضمير … إنه إنسان أراد أن يعيش بكرامة وحرية وعزة نفس ، لم يقبل المساومة على دينه ووطنه وقيمه ، رفض كل أشكال القهر والظلم والفساد ، أبى أن يعيش بغير فطرته التي فطره الله عليها ، يعمر الأرض بالخير ويمنع عنها الشر ، يتعبد بكل حسن ويتبرأ من كل قبيح ، ولكن .. أنىَّ له ذلك ! .
فهذه الشخصية من البشر وهذا الأسلوب من الحياة قد اندثرا وأصبحا في ذمة التاريخ ، ولم يعد لهما أي مكان بيننا ! فكان لا بد من أن يصدر الحكم بإخماد ذلك الصوت ، وكسر تلك المرآة ، وأن يختفيا معاً وإلى الأبد ، وبالفعل فما هي إلا غمضة عين حتى تحوّل ذلك الإنسان وبجرة قلم إلى مجرد حبة فول تُدق على أم رأسها صباح مساء ، وتُهرس حتى تضيع ملامحها ، ثم تُلقى بلا رحمة ولا شفقة في تلك الجرة الكبيرة ، لتشتعل النيران من تحتها فتجعل حياتها جحيما لا يُطاق وعذابا لا ينتهي ، وليت الأمر يقف بها عند هذا الحد ولكنها من بطن الجرة إلى بطن أخيها الإنسان ثم إلى بطن الأرض والنسيان ، في ظلماتٍ ثلاث ، زيادةً في التنكيل بها ، وإرواء لشهوة الانتقام منها ، وذلك حتى تكون عبرة لمن لا يعتبر ، ومثالا لا يُحتذى به بين البشر .
هذه هي حكاية صديقتي العزيزة (حبة الفول) ، فهل عرفتم الآن لماذا وجبة الفول أرخص وجبة على وجه الأرض ؟ الإجابة وببساطة شديدة .. لأن مصدرها محصول البشر الوفير الذي يُحصد يوميا هنا وهناك في شتى بقاع العالم وبجرة قلم .[/ALIGN]

أحمد بن محمد اليماني
كاتب سعودي
Aladeeme301@hotmail.com الرسالة