أ.د. معز عمر بخيت
قصة اسمها الطيب عبد الماجد
أمضيت مع الطيب ثلاثة أشهر بالسويد وفترات متقطعة بالإمارات والبحرين فأدركت بأنه شاعر متمكن، وممثل بقدرات لا حدود لها وله مقدرة (وعيني باردة) على تذكر الأحداث والقرائن وهو خريج قانون الخرطوم بالمناسبة ـ بصورة تستدعي التأمل. ما أدهشني أن الطيب كان يجتر الوقائع التي حدثت مثلاَ باللغة السويدية التي لا يتحدثها ويحاكيها كذلك! حيث أن لديه القدرة على طبع كل المؤثرات التي حوله على ذاكرته النيّرة. أما إذا كنت سيد المجلس في حضوره فكن حذراً لأنني لم أقابل أحداً له قدرة الطيب على تقليد الأشخاص وخلق مشاهد كوميدية منها.
عندما زارني الطيب بالسويد خلق علاقات حميمة وترك ذاكرة مفعمة بالحب والدهشة مع جميع الشخصيات التي التقى بها ومن كل الجنسيات والجنوسة النسقية والجندر، من الأطفال وحتى أقاصي العمر. أذكر تماماً علاقته بطفلتي الحلوة سارة (مدائن الفرح) وهي سبحان الله – لا زالت تذكر الكثير من حركاته الأكروباتية حتى الآن. وكذلك (Stig) رئيس القضاء السويدي الأسبق العاشق للسودان الذي ناهز التسعين من العمر في ذلك الوقت ـ وكان قد استضافه الطيب في حلقته من السويد فما فتئ هو الآخر يسأل عن الطيب كلما ألتقيه وهو يمارس رياضة المشي على ضفاف بحيرة الميلارن الساحرة التي تعبر من بحر البلطيق بشرق السويد وتمر بوسط مدينة استوكهولم لتنتهي على مشارف مدينة غوتنبورج حين تصب ببحر الشمال غرب السويد. لقد علمت مؤخراً أن السيد (Stig) قد رحل عن دنيانا بعد عمر طويل مليء بالعطاء لوطنه وللعالم أجمعه خاصةً السودان ولهذا الأمر قصص وحكاوي سأعود إليها لاحقاً حتى نحفظ للآخرين حقهم ونذكر عطاءهم لبلادنا وللآخرين.
كما أن للطيب لمسات موسيقية ورياضية عجيبة. فإذا أتيحت لك السانحة ورأيت الطيب يمشي (مشية العقرب) فتأكد أنه يعيش لحظة من الفرح والنشوة. الطيب شخص لا يمكن أن تمله على الإطلاق وهو مجامل لأقصى حد حتى على حساب نفسه وفوق كل هذا وذاك فهو إنسان يحس بمعاناة الآخرين ويقدرها تماماً ـ رغماً عن أنه تآمر عليّ وأخفى رقم هاتف مهم في يوم من الأيام ـ إلا أن حسن نيتي انتصر لي في الآخر. حدث ذلك في دبي عندما دعيت لاحتفالات توزيع جائزة حمدان العالمية. وأذكر وقتها تماماً كيف دفعت ضريبة هجري لغرفتي المدفوعة الأجر من قبل اللجنة المنظمة بفندق كراون بلازا لأقيم مع صديقي العزيز الطيب بشقته الفاخرة المطلة على برج خليفة في شارع الشيخ زايد الأفخم في دبي من أجل تجاذب أطراف الحديث واستعادة الذكريات حتى الصباح. ففي يوم الاحتفال ونحن في فارهته على الطريق لموقع الاحتفال فتحت موضوعاً أثار في الطيب بعض المواجع القديمة فتاه عن الطريق والقاعة التي كانت قاب قوسين منه أو أدنى، فأخذنا نسأل كل هندي ومغترب وود بلد ليدلنا على الطريق. بعد مرور ساعتين أو أكثر لمحنا القاعة على اليسار من الجهة الأخرى لطريق المرور السريع ونحن على يمينه فكان علينا إذن أن نبحث عن أقرب مخرج لنطلع به ونستدير لنعود للجهة الأخرى. وحيث أن الوقت كان وقت ذروة والاستدارة كانت ستكلفنا ساعة أخرى على الأقل، قرر أبو الطيب ـ وليته ما فعل ـ ركن السيارة أمام مشتل زراعي شبه مهجور ثم دعاني لعبور طريق المرور السريع (جرياً) على الأقدام. عبرنا بسهولة الطريق الأول القادم من الجنوب للشمال حيث شدة الزحام جعلت العربات شبه واقفة فرحنا ننساب كالباعة المتجولين بين السيارات حتى وصلنا إلى الفاصل بين الطريقين: الذاهب الذي عبرناه والقادم الذي نخشاه. كانت المشكلة في هذا الطريق القادم والآتي من الشمال للجنوب حيث أن السيارات تمر أمامك وأنت لا تكاد تراها من شدة الاندفاع الواحدة تلو الأخرى وفي أربعة صفوف متوازية. تصوروا أننا وقفا ساعة في محاولة العبور بلا أمل. قال لي الطيب وخيبة الأمل تبدو عليه: لا حل لنا الآن سوى اللجوء للكارت الأخير. قلت له وما هو هذا الكرت الأخير يا أبو الطِيب العجيب؟ قال لي: ننده الشيخ البرعي! بدأ الطيب في مناجاته وهو مستدير بوجهه عني حتى لا أسمع أو أقرأ همهماته. وعندما فرغ من أوراده صاح بأعلى صوته: يا الشيخ البرعي يا راجل الزريبة وحافظ القران في أثناء صيحته لمحت أن حركة السيارات قد خفت بالفعل ويا لدهشتي فانطلقت كالصاروخ عابراً الطريق تاركاً أبو الطيب من الناحية الأخرى واضعاً يديه على رأسه من العجب في قدرتي على الجري هكذا! وتركت الطيب وهو ينده ويناجي من جديد وتمكن الطيب من العبور مندفعاً كالبرق. ثم انطلقنا معاً ونحن (ميتين) من الضحك كالسهام نحو قاعة الاحتفال التي وصلناها متأخرين ثلاث ساعات فقط. لكن نحمد للمواعيد العربية دورها الرئيسي وحكمتها في مثل هذه الحالات فقد بدأ حفل توزيع الجوائز متأخراً ساعتين (بس) وتم السماح لنا بالدخول ـ رغم أننا نسينا بطاقات الدعوة (مركونة) في فارهة الطيب ـ فهو إعلامي كبير وأنا معي كرت الوجاهات وعلى كل حال لم يفتنا من الحفل إلا نصفه الأول (والبركة في العشاء). تلك كانت مخاطرة ما بعدها مخاطرة لكنه أبو الطيب وأحواله العجيبة. التحية والإجلال للرجل الأسطورة الطيب عبد الماجد الذي لا تنتهي حكاياته الجميلة التي لا تتسع لها كل صحف الفرح والجمال مهما امتدت صفحاتها وتلونت أحرفها فهو بلا شك رجل أسطوري وجميل ووجه مشرق لهذا الوطن في كل الأماكن والعصور.
مدخل للخروج:
أبدى لنا القمر الذي بضيائه يسري ويسبح في الدجى القمران.. فبهاؤه ملء العيان وذكره ملء الزمان وملء كل مكان.. إن لم يكن ملكاً فإن زمانه من أجله ملك على الأزمان.
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com