ماذا يحدث للطب والأطباء في بلادي – 4
جاء في رسالة الأخت العزيزة الدكتورة مضاوي ما يلي:
الأخ الكريم أسامة نور الدائم،
وعليك سلام من الله ورحمة وبركات
قبل أن اجد مدخلي للرد على أوردته لي طلب.. بل رجاء وهو أن تعيد قراءتي بتجرد ودون الانحياز
الى فكرة معينة.. فقط بضع دقائق من وقتك و بشيء من الصبر والأناة. والان بعد أن عدت.. ستجد انني لم ارفع المسؤولية عن احد ولم أبرئ احد وليس هذا هو الهدف من حديثي بالمرة ..!!
ليس الأمر محكمة.. ولست امثل دور محام الدفاع عن فئة معينة.. انما هي اضاءة عن امور غائبة ربما.. او ربما نغيبها نحن بارادتنا ونرفض النظر اليها.. لان الامر يبدو أكثر يسرا عندما نلقى اللوم على جهة بعينها.
هناك طبيب (مستهتر ) وطبيب (سيء الطباع ) وطبيب (قاس) وطبيب (جيد) و(ممتاز) و (عظيم بكل ماتعنية الكلمة من معان) و و و لا خلاف على هذا لكن هل هذا هو المقياس الحقيقي لمدى تدهور او ارتقاء الخدمة الطبية في أي مكان في العالم؟ حقيقه لم أكتب ما كتبت الا وأنا مؤمنة ان السبب الاول لطرح هذا النقاش هو ايجاد مخرج من هكذا ازمة بعيدا عن مشادات المحاكم التي لافائدة ترجى منها هنا من اتهامات ودفاع.. وكما ان لنا جميعا قصص واحداث ربما سمعنا بها وربما عايشناها.. او عشناها شخصيا.. عن خسائر والآلام ناجمة عن سوء الرعاية الطبية.. فان هناك الالاف القصص والاحداث الخفية وراء تلك الروايات.. والتي لم يسمع بها ولم يراها الا من كان جزء من هذا النظام ..
ان ممارسة العادة التي سرت في مجتمعنا.. بتوجيه اصابع الاتهام الى (الواجهة) التي نتعامل معها مباشرة
دون النظر الى مادون ذلك وما وراءه.. هي عملية (دفن الرؤوس) الفعليه.. عن باقي الحقيقه .. فاذا اردنا اصلاحا علينا أولا ان نلم بجميع اطراف القضية لا أن نقف على عتابتها مشجبين ومنكرين .لاننا ببساطة اذا اردنا ان نحصل على ثمرة صحيحة يانعة علينا ان نعتني بكامل الشجرة.. اوراقها اغصانها وان ننقب في كل المشاكل التي تعيق نمو الثمرة التي نحب ثم نحاول معالجتها من جذورها بل من مكونات تربتها وتركيبه مياه سقايتها وكمية الضوء التي تغطيها. وحتى ما ينمو حولها وما يتطفل عليها من نباتات انتهازية وعوالق
لان الثمر لا يسقط طازجا من السماء !
واريد توضيح امر فيما يخص عدم توفر الإمكانيات (والتي ترون ان لاعلاقة لها بالأمر) وهي انها كانت وستبقى واحدة من عدة اسباب اخرى .مرتبطة ببعضها البعض..طرحتها في بداية موضوعي.. ادت جميعها الى هذه النتيجة التي تقض مضاجعنا اليوم. ان مفهوم نقص الامكانيات لا يعني بالضرورة عدم توفر الفحوص غالية الثمن كالتي ذكرت انما هي الكثير من الأمور المهمة لتحسين مستوى الخدمة ككل. وقد تتمثل في اصغر وادق التفاصيل! واليك بعض النقاط والامثلة:
نحتاج للامكانيات لتحسين معامل المشافي العامة الاجراء ابسط الفحوص واعطاء نتائج موثق بها ولرقابة المعامل الخاصة وتحديد مستوى الحد الادني من الجودة (العاملين، الاجهزة، الصيانة، الخ) التي يجب توفرها في أي من المعامل. فمثلا في احدى المستشفيات الحكومية كانت نتيجة فحوص معمل المستشفى معروفة من قبل ان تؤدى، حتى ان احد الاطباء طلب من المريض اجراء الفحص خارج المستشفى او اخذ العلاج (على بركة الله) لان معمل المستشفى سيعطي نتيجة متوقعة وخاطئة فأراد المريض اجراء الفحص بمعمل المستشفىعلى أي حال، فوافق الطبيب وكتب له النتائج في ورقة خرى كما توقعها (وكما كانت تأتي لكل المرضى في ذلك اليوم). وهكذا تطابق توقعه تماما مع النتيجة التي جاء بها المريض فذهب لاجراء الفحص بالخارج والذي يكلف المزيد من المال وجاء بنتيجة لاتمت لنتيجة معمل المستشفى المكشوفة بصلة.
وهكذا توفيت عمتي رحمها الله منذ عام تقريبا عندما قدم معمل مرموق نتيجة خاطئة لفحوصات (كلها نظيفة) لاتعكس مدى خطورة حالتها في تلك النقطة. وتمت اعادة الفحوصات مرة اخرى في معمل مختلف
وجاءت خاطئة ايضا (سليمة تماما). وفي اليوم التالي كانت قد اسلمت الروح جراء تسمم في الدم ادى الى
مضاعفات اخرى خطيرة (كانت النتيجة الاخيرة لفحوصاتها والتي اجريت في معمل ثالث مروعة) وكان من الممكن ان تعالج بالمضاد الحيوي المناسب لو تم اكتشافها في وقت مبكر.
خطأ من هذا؟ الطبيب؟ الفحيص؟ اجهزة المعمل؟ مهندسي الصيانة؟ الشركات المستوردة للاجهزة؟ المواد ؟
من؟ وهل يجوز القاء اللوم على شخص واحد محدد ضمن هذه المجموعة؟
كانت تمر ايام في الحوادث تسمى ب (أيام الملاريا).. حيث تأتي كل الفحوصات المرسلة للمعمل ايجابية
وايام اخرى تكون كل الفحوصات سلبية.. وايام تسمى ب (ألتهاب البول).. اذ توجد ذات الكمية من البكتريا وخلايا الصديد في كل العينات المرسلة. حتى عدد كريات الدم بالعدد ذاته ..وايام (الدسونتاريا ).. وايام (الغارديا).. وكأن تلك الطفيليات ملتصقة بعدسة المجهر وتأبى ان تزول.
وهنا يضطر الاطباء لوصف العلاج وفق الاعراض وشكوى المريض بغض النظر عن النتيجة التي لا تعني أي شيء. بعد اعطاء المريض خيار الفحص في معامل اخرى.. ومواجهة ذلك الخيار بالرفض سواء لعدم القدرة او ضيق الوقت او (زهجة ساي).. هذا اذا ما تحدثنا عن دور الامكانيات في تحضير معامل يمكن الاعتماد عليها بشكل قاطع لتشخيص المرض. ولو كان بسيطا الامر المستحيل تماما هنا بينما يتحدث العالم كله ويعمل بنظام طبي يسمى Evidence based medicine أي الطب القائم على الادلة.. فلا يعالج مرض الا بعد استنفاذ كل الفحوصات المتوفرة لتشخيصه.. والتي تتدرج من وخزة ابرة الى عمليات كبرى غاية في الخطورة والتعقيد. هكذا تعالج الامراض في كل مكان.. بينما لانستطيع الوثوق (هنا) في نتائج اتفه الفحوص الروتينيه ولا نستطيع العلاج بناء عليها.
ثم اننا جميعنا نعلم ان الطب مهارة تحتاج الى تعلم دائم لاكتسابها واتقانها وايضا تحتاج الى تطوير مستمر. واذا نظرنا في أي مكان في العالم نجد ان العاملين في المجال الطبي يحظون بتدريب مكثف دائم في كل يوم يمر على مدى تواجدهم ضمن اطار الخدمة. وهناك ميزانيات ضخمة وادارات مختصة وموارد مخصصة لهذا الامر في أي مكان من العالم تقدم فيه خدمة صحية محترمة ويكون هذا التدريب جزء لا يتجزأ من عمل مقدم الخدمة وهو ملزم به تماما. اما هنا فلا وجود لهذا المسمى الا بصورة تكاد تحاكي الظلال اذ لايوجد نظام حقيقي واضح وعمل جاد لتقديم هذا النوع من التدريب … فالامر على ندرته يعتمد على الاجتهاد الفردي.. ولمن اراد.. وبالتأكيد فأنه مطالب بالدفع مقابل ذلك مبالغ محترمة قد تضاهي مرتبه الشهري وقد تفوقه باضعاف كثيرة! ثم نأتي لدور الامكانات لتأسيس نظام ثابت تعمل به المستشفى .. ليتحرك العاملين فيها ضمن اطار معروف وخطوات ثابته الامر الذي يسهل تشخيص وعلاج اغلب الامراض الشائعة وتلافي الوقوع في الخطأ بنسبه اكبر. ثم سهولة تحديد مصدر الخطأ ان وجد وتيسير اجراء الاحصاءات الضرورية للارتقاء بالخدمة وسد الثغرات وتلافى المشاكل السابقة.
ثم دورها في فرض رقابة صارمة على صرف الادوية من الصيدليات دون وصفات طبية اذ ادى التعامل العشوائي مع الادوية (وخاصة المضادات الحيوية) الى نشوء اجيال جديدة من الميكروبات المقاومة لها. وهكذا اصبح اغلب الاطباء يعتمدون على الاجيال القوية منذ اول تشخيص للاتهاب (لصعوبة اجراء زراعة توضح نوع البكتريا .. ولعدم ضمان صحة النتيجة اذا ما اجريت) الامر الذي قد يعرض المريض الى اعراض جانبية كثيرة ومخاطر شتى. ثم دور الامكانات في انشاء بيئة سليمة تضمن عدم انتقال العدوى في المستشفيات بين المرضى وحماية العاملين فيها. ثم دوره في بناء قاعدة صحيحة لتمريض سليم اذ لا ينجح دور الطبيب وان كان ساحرا دون وجود تمريض جيد.
اننا عندما نتحدث عن الامكانيات فإن الحديث لا ينحصر في المادة فحسب وان كانت اساسا يتفرع منه
الكثير من الضروريات اللازمة للوصول الى النتيجة المرجوة، ومن ذلك وجود الاشخاص المناسبين في الاماكن المناسبة وضمان فعاليتهم في هرم النظام الصحي العملاق لضمان ثباته وتأثيره، والحديث يطول ولا ينتهي.
مودتي واحترامي
مدخل للخروج:
الوعد إما أن نعيش على دروب الفتح خيرا او نموت على زوايا الحلم والصبر ابتهال.. فالحق لايُعلىَ عليه
و لاشموس العزّ تخبو فى جبين البحر تسقط أو سماؤك تختفي خلف الرمادِ ولا لقدرك يا بلادي غير عرش لا يُطال..
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com