تحقيقات وتقارير

النهب الدولي والقرصنة الصومالية


[ALIGN=JUSTIFY]أثارت قصة اختطاف الباخرة الأوكرانية المحملة بالأسلحة المتطورة المتوجهة إلى جنوب السودان، رغم الحظر المفروض على تصديرها إليه بموجب اتفاقية المصالحة المبرمة بين الطرفين المعنيين برعاية دولية، في الشاطئ الصومالي من قبل القراصنة الصوماليين ومطالبتهم باثنين وعشرين مليون دولار مقابل الإفراج عنها، اهتمام وسائل الإعلام الدولية.
مرد الاهتمام بالصومال
ويرجع هذا الاهتمام إلى أسباب متعددة أهمها ما يلي:
– انتعاش حركة القرصنة في المياه الإقليمية الصومالية بدرجة أصبحت تهدد التجارة العالمية وتنذر بأوخم العواقب على الأمن البحري في المنطقة.
– الخوف من التحالف بين القرصنة والإرهاب الدولي، والتوجس من خطر التلوث البيئي لو تم الاعتداء على ناقلات البترول.
– زيادة تكلفة التأمين البحري على السفن.
كل هذه أمور يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار الشحن، ومن ثم الانعكاس السلبي على الاقتصاد العالمي في وقت ينوء فيه العالم بأزمة ارتفاع أسعار البترول وزيادة أسعار المواد الغذائية وانهيار النظام البنكي العالمي، وبالتالي انخفاض مستوى المعيشة على المستوى الدولي.
وتقع دائرة عمليات القرصنة في المنطقة المحاذية لساحل بوت لاند فقط وليست في كل الصومال، لأن منطقة صوماليلاند والجنوب الصومالي خاليتان تماما من أعمال القرصنة.
ورغم أن منطقة بوت لاند غنية بمواردها الطبيعية مثل البترول والثروة السمكية والثروات البحرية الأخرى كالملح والغابات الحافلة بأشجار البخور واللبان التي تشكل المادة الخام لصناعة العطور، فإنها كلها غير مستغلة.
وقد دأب سكان هذه المنطقة من قديم الزمان على النزوح إلى الجنوب حيث كانت الأعمال نسبيا متوفرة في الإدارة والقوات المسلحة والشرطة والزراعة والتجارة.
وبعد نشوب الحرب الأهلية اضطر معظمهم إلى الرجوع إلى مواطنهم الأصلية التي كانت تفتقر إلى مقومات الحياة الطبيعية، كالبنية التحتية الاقتصادية وأسباب الحياة من الزراعة والرعي والتجارة.
وقد استثمرت إثيوبيا هذا الوضع المأساوي الذي وجدوا أنفسهم فيه، فحرضت المليشيات من هذا الإقليم بزعامة عبد الله يوسف والتي كانت متحالفة معها أثناء الحرب الصومالية الإثيوبية عام 1977، وقدمت لها الدعم العسكري والمالي لترويج مشروع الانفصال وتنفيذه عن الصومال الموحد.
وبذلك استطاعت إثيوبيا التوسيع من دائرة تفكيك الوحدة الإقليمية للبلاد، وإعطاء الانفصال السابق لصوماليلاند مبررا جديدا للانكفاء والجرأة في التحدي لفكرة التحرر الوطني التي كانت قائمة على وحدة الوطن الصومالي كله. وهكذا أعلن الإقليم استقلاله الذاتي، وأطلق اسما جديدا على نفسه هو بوت لاند.
ورغم هذا الاستقلال الذاتي، فإن الدعم الإثيوبي لا يتجاوز تقديم الأسلحة وتدريب المليشيات ودفع رواتب ضباط الأمن لمجرد حماية الوضع الراهن ألا وهو الانفصال عن الصومال، كما تساهم المخابرات المركزية الأميركية في التنسيق والتعاون مع إثيوبيا لتحقيق نفس الغرض تحت مسمى مقاومة الإرهاب.
وأمام الفقر المدقع هاجر معظم سكان الإقليم لا سيما الكوادر المتعلمة منها للعمل في الخارج وخاصة إلى أوروبا وأميركا، وبدؤوا يرسلون معونات مالية إلى ذويهم أصبحت تشكل المصدر الأساسي لمعيشة السكان.

تجارة رابحة
وقد اكتشف السكان أن شواطئهم أصبحت بعد انهيار الدولة منذ العام 1990 مرتعا لنهب الشركات وعصابات الجريمة الدولية التي قامت وتقوم برمي النفايات النووية والكيميائية والصناعية المحرمة دوليا، ونهب الموارد البحرية لا سيما السمكية.
وتجدر الإشارة إلى أن الساحل الصومالي الذي يمتد ثلاثة آلاف وسبعمائة كيلومتر يعتبر أطول ساحل أفريقي وأغناه بالأسماك المتنوعة، إذ قد يصل سعر بعض الأنواع إلى ستة آلاف دولار للكيلو الواحد.
وقد تحدث المنسق العام للأمم المتحدة في الصومال السيد ولد عبد الله في محاضرة له في مركز الدراسات الإستراتيجية البريطاني المعروف باسم “شاتام هاوس” عن ما يفقده الصومال من مكاسب مالية بسبب عدم بسط السيادة على مياهه الإقليمية.
وقال ولد عبد الله إن “موريتانيا التي تملك 800 كيلومتر من الساحل تكسب ثمانمائة مليون دولار سنويا مقابل السماح لشركات الصيد بالاصطياد في مياهها الإقليمية، فإذا قارنت الساحل الموريتاني بالساحل الصومالي يمكنك أن تقيس مدى مليارات الدولارات التي يخسرها الصومال من عمليات النهب التي تمارسها شركات الصيد الأوروبية والأفريقية والآسيوية، ناهيك عن إغراق المخلفات السامة والنووية”.
ووجدت بعض الجماعات المسلحة في التعرض لسفن الصيد والمراكب السياحية والتحرش بها صيدا ثمينا، فكانت تتلقى منها مبالغ طائلة تعتبر زهيدة بالنسبة لشركات الصيد التي كانت تكسب الملايين جراء الصيد بحرية باستخدام وسائل الصيد المحرمة دوليا. وهكذا تبادل الطرفان المصالح بتراض تام ودون صخب أو ضجيج.
وبمرور الزمن تطورت القرصنة باكتساب مهارات فنية عالية واستعمال زوارق مطاردة سريعة تحمل محركات حديثة وأسلحة خطيرة مثل “آر بي جي” وأجهزة تقص واستكشاف ووسائل اتصال متطورة، وأصبح مجال تحركها يتجاوز الشاطئ الصومالي ليمتد إلى 200 كيلومتر في عمق المحيط.
وتخصصت أعداد كبيرة من الأفراد في هذه التجارة المربحة، وبمباركة ضمنية من السلطة المحلية في بوت لاند التي تنصلت من أي مسؤولية تجاه هذه المشكلة الأمنية بحجة أنها لا تملك القدرة على التصدي لها، إلى أن وصلت أعداد السفن التي تعرضت للسطو والقرصنة إلى أرقام قياسية.
وبدا القراصنة يشعرون بالثقة في النفس وتمرسوا بفنون الابتزاز والتفاوض وأصبحوا يطالبون بمبالغ خيالية ويعرضون حياة البحارة للخطر.
ومع استفحال الوضع تسابقت الدول المالكة للسفن، التي تنهب الموارد البحرية في المياه الإقليمية الصومالية أو التي تستعملها للمرور البريء ولا سيما الدول التي تملك القواعد العسكرية والأساطيل المدججة في مدخل البحر الأحمر وفي جيبوتي، بالتنديد بأعمال القرصنة، دون أن تحرك ساكنا لحراسة السفن العابرة أو حتى التي تعرضت للخطف.
ويبدو أن اهتمام الدول الكبرى بالموضوع لا يتجاوز السيطرة على الأهمية الإستراتيجية للصومال والبحر الأحمر ومحاربة الإرهاب الدولي وتمكين سفنها من الاصطياد بحرية، باستثناء فرنسا التي قامت بحركات استعراضية لاختطاف القراصنة ونقلهم إلى فرنسا لتقديمهم إلى المحاكمة، دون أن تحدث أي تأثير على عمليات القرصنة بل زادتها تفاقما.
وقد أعلنت مؤخرا دول كثيرة استعدادها للتدخل من بينها الاتحاد الأوروبي والهند وكندا وماليزيا وروسيا ومصر.
وفى الثاني من يونيو/حزيران 2008، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1816 برعاية أميركية وفرنسية يجيز للسفن الحربية الأجنبية حق الدخول في المياه الإقليمية الصومالية لأغراض قمع أعمال القرصنة والسطو المسلح في البحر بكل الوسائل الممكنة.
ومن أحدث المبادرات إنشاء “منطقة دوريات أمن بحري” حيث ستقوم سفن دول متحالفة بدوريات مشتركة تكون على مقربة من منطقة الملاحة البحرية، ومن ثم في مجال تقديم المساعدة، وحتى هذه الساعة فإن هذه المشاريع لم تحقق شيئا يذكر.

جوهر المشكلة
إن جوهر المشكلة نابع من السطو والنهب المنظم للموارد الصومالية البحرية. وقد شجعت الشركات المالكة للسفن رواج أعمال القرصنة بتقديمها للفدية طواعية لأنها كانت تعتبرها مبالغ زهيدة مقارنة مع ضخامة الأرباح التي كانت تجنيها.
وعندما انتعشت هذه التجارة الرابحة، وبدأت تخرج عن نطاق السيطرة بطلب القراصنة مبالغ خيالية، ارتفعت أصوات الاحتجاج عبر العالم أجمع.
إن المجتمع الدولي يتناول القضية من جانب واحد فقط، وهو جانب القرصنة دون أن يحاول معالجة جوهر الموضوع. والقرصنة يمكن أن تتوقف ببساطة لو توقفت شركات الصيد عن الاصطياد في المياه الإقليمية الصومالية أو لو امتنعت عن دفع الفدية.
وتبقى القضية الجوهرية هي الاعتداء على المياه الإقليمية ونهب الموارد البحرية وسرقة مليارات الدولارات من الدخول بسبب الصيد غير المشروع.
ويستطيع الإنسان أن يستنتج أن كل القرارات الدولية المتعلقة بمحاربة القرصنة لا تهدف إلا لحماية الصيد غير المشروع في المياه الإقليمية الصومالية وحرمان البلاد من العوائد التي تستحقها.
كانت المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر قبل الاحتلال الإيطالي بسبب الظروف الاقتصادية القاسية تعيش على القرصنة، وكانت السلطات البريطانية في عدن تقدم هبات مالية سخية سنوية لسلاطين الإقليم مقابل وقف أعمال القرصنة وحماية السفن البريطانية التي كانت تمر عبر شواطئها من أي اعتداء.
كما كان الشاطئ الصومالي آمنا إبان الاحتلال الإيطالي، واستمر الحال كذلك خلال ثلاثين عاما من عمر الدولة الصومالية حيث لم تحدث حادثة قرصنة واحدة.
وعندما سيطرت حركة المحاكم الإسلامية على السلطة في الفترة بين يونيو/حزيران إلى ديسمبر/كانون الأول 2006، استطاعت القضاء نهائيا على القرصنة.
وهذا يبرهن على أن وجود سلطة الدولة الوطنية المركزية التي تحظى بالشرعية الشعبية خير ضمان لحماية الاستقرار في الداخل والأمن في المياه الإقليمية الصومالية.
إن القرصنة في الشواطئ الصومالية هي الوجه الآخر لعمليات زعزعة الاستقرار التي تمارسها إثيوبيا وكينيا منذ إعلان تحالفهما الإستراتيجي ضد الصومال منذ أوائل الستينيات، وانتهاء بالتدخل العسكري المباشر منذ ديسمبر/كانون الثاني 2006، الذي بدأ بتسليح المليشيات العشائرية ثم إنشاء الكيانات الانفصالية، وأخيرا بالمذابح الجماعية التي ترتكبها القوات الإثيوبية، وتدمير المدن وضربها بالصواريخ والدبابات وتهجير مليون ونصف من العاصمة مقديشو.

أطماع بلا حدود
ومن المضحكات المبكيات ما نشرته في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2008 جريدة “نيشن ديلي” الكينية لسان حال الحزب الحاكم بقلم كاتبه دونالد كييبكورير تعليقا على حادثة الباخرة الأوكرانية.
إن “لكينيا مصلحة إستراتيجية في الصومال، وإن كينيا وإثيوبيا يجب عليهما التحرك لتقسيم الصومال فيما بينهما، وإن هذا التقسيم سيجعل كلا من البلدين يضمان أراضي تصل إلى300 ألف كيلومتر، وبمجرد أن ترسلا قواتهما المشتركة وتعلنا هذا الإلحاق فإن العالم سيوضع أمام الأمر الواقع”.
كما تنشر المدونات الإلكترونية الإثيوبية مقالات مماثلة بمناسبة خطف الباخرة الأوكرانية تدعو إلى الإلحاق الفوري لكل من الصوماليلاند وبوت لاند، وحتى علاقات التحالف التي تربطهما بإثيوبيا لا يغفر لهما.
وطبعا، هذه أضغاث أحلام، لكنها تكشف الحرب العدوانية التي تعرض لها الصومال بمباركة من حلفاء كينيا وإثيوبيا الغربيين الذين يعتبرون الصومال مرتعا للإرهاب الإسلامي.
والحل الوحيد لمشكلة القرصنة هو انسحاب القوات الأجنبية ووقف العدوان الخارجي، ومساعدة البلاد على الخروج من نفق الألاعيب الدبلوماسية الذي يقوده المجتمع الدولي بتمويل من الاتحاد الأوروبي بإنشاء مؤسسات وهمية لا تمت إلى الواقع بصلة ولا تؤدي إلا إلى استمرار معاناة الشعب الصومالي، لكنه في المدى البعيد يضر أيضا المجتمع الدولي كما هو الحال في حالة القرصنة.
إن استقرار الصومال واستعادة استقلاله ووحدته الوطنية والإقليمية وتكوين السلطة الشرعية الممثلة حقيقة للشعب الصومالي بكل انتماءاته هي الضمان الوحيد للقضاء على القرصنة المحلية والدولية في المياه الإقليمية.
وليس هناك بديل من تحقيق السلام وإنشاء مؤسسات الدولة الحديثة وبناء الجيش والشرطة الوطنية واستثمار موارد البلاد الطبيعية وتحقيق التنمية الشاملة، لأنه بدون ذلك سيبقى الخطر ماثلا على مصير الصومال وعلى الأمن في القرن الأفريقي وفى العالم أجمع.
وحتى لو أدت القرصنة الحالية إلى تجنب استعمال الملاحة الدولية لخليج عدن وتحولت إلى رأس الرجاء الصالح، فإن ذلك سيشكل كارثة اقتصادية كبيرة بما تمثله من تبعات مالية مرهقة على الاقتصاد العالمي.

محمد شريف محمود:الجزيرة [/ALIGN]