تحقيقات وتقارير

عودة الميرغنى .. لحظة الفـرح والأحزان ..!!

[ALIGN=JUSTIFY]صلاح عمر المشهد الذى سيطر على نهار ومساء العاصمة السودانية يوم أمس كان استثنائياً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى فالمقاربة الوحيدة التى يمكن ان نستدعيها لنصف بها الحشود والكتل البشرية التى انتشرت فى كل مداخل وشوارع مدينة الخرطوم وبحرى شمال النيل هى تلك الحشود التى تجمعت فى ذات الصباح فى ولايتى شيكاغو واريزونا بالولايات المتحدة الامريكية مترقبة اعلان نتيجة الانتخابات التى توجت اوباما رئيسا يحمل الرقم 44 ،وكأن الصدفة والاقدار تريد ان تدون يوم الخامس من نوفمبر فى سجلات التاريخ وذاكرة الشعوب فى الدولتين رغم التباعد الجغرافى بينهم فهو ذات الرقم الذى تقف عنده ذكرى ثورة الشعب السودانى فى منتصف الستينات والشئ الاخر ان حالة الفرح والحزن التى توزعت فى شيكاغو واريزونا تجمعت هنا فى السودان، الاولى لعودة الزعيم التاريخى للختمية والحزب الاتحادى والثانية لوداع الرجل الثانى بالحزب ورئيس مجلس السيادة الاسبق السيد أحمد الميرغنى الشقيق الاصغر لمولانا .
الخرطوم التى فاقت يوم امس كانت تختلف عن تلك التى كنا نتجول فى شوارعها من قبل الكل يتحرك بشئ من الحماس والسعادة الممزوجة بالحزن والترقب هو سيد الموقف فى وجوه الجميع ، حتى الوان الزى التى ظهرت بها شوارع عاصمة البلاد طوال يوم الامس كانت متطابقة فى اغلبها فهى مزيج من الوان علم البلاد القديم ورمز الاتحاديين الحالى فاللون الاصفر والاخضر كانا كالقاسم المشترك الذى تلمحه العين بمجرد ان تقع فى كل الاتجاهات، الشئ الاخر الذى يستوقفك هو التباين الذى يمثل السمة العامة لتلك الحشود التى تجد فيها الشباب والاطفال والنساء والرجال والكهول كلهم كانوا يتراصون جنبا لجنب على الرصيف وفى الطرقات مرددين هتافات تعبر عما بداخلهم من اختلاج باين فى مشاعر هذا اليوم فحينما يرددون عاش ابوهاشم سرعان ما يلحقونها باخر «ستبقى فينا للابد » مشيرين لصورة السيد أحمد الميرغني التى يحملونها فى ايديهم ، هذا هو المشهد العام الذى بدأ منذ طلوع شمس يوم الامس وكلما تقدمت ساعات اليوم زاد اللهيب والحماس الذى يدفعهم وارتفعت الاعداد التى لم تشهدها شوارع الخرطوم منذ وقت قريب .
هاهى ساعات يوم امس تتقدم نحو العاشرة صباحا بشكل سريع وكان ما يحسه المريدون والمؤيدون لذاك القادم من شمال الوادى تسرب اليها فتعطشت الى لقياه ، وبعد ان تجاوزت عقاربها العاشرة ب17 دقيقة تحولت ساحات المطار عند مدخل الصالة الرئاسية الى مرجل يغلى زادته نوبات الحوارين ونحاس الرفاعين فورا لم نبق فى ذلك المشهد كثيرا بعد ان تسرب الينا ان الموكب سيتحرك عن طريق البوابة الشمالية للمطار ، لم يختلف المشهد وكأن الجموع وزعت الادوار بينها ضاربة حصارا على ارجاء المطار ومحتشدة بكل مدخل ومخرج منه، الا ان الصورة التى انتشرت بها القوات النظامية بتلك الناحية اكدت ما تحصلنا عليه من معلومات ، فالشرطة بمختلف وحداتها موجودة ومنتشرة على طول الطريق الواصل من داخل المطار الى شارع الجامعة عبر حدائق السلام .
الحادية عشرة صباحا موعد للعبة الاعصاب التى مارستها علينا ابراج الملاحة الجوية وهى تعلن عن تعديل فى موعد وصول الطائرة التى تحمل معها ذلك الطعم المختلط بين النقيضين الحزن والفرح الى الواحدة ظهرا بدلا عن العاشرة ، كما اعلن، مما زاد من حالة الترقب بين الكتل المنتشرة فى كل مكان .
غفلنا عائدين الى المحطة الاولى التى ستستقبل نعش الراحل السيد أحمد الميرغني وزعيم الختمية مولانا محمد عثمان الميرغني ومرافقيهم بشارع النيل متخذين من شارع الجامعة معبرا الى جنينة السيد علي، الشئ الذى لم يكن يسيرا عن طريق السيارات التى تخلينا عنها وتحركنا راجلين وسط كتل بشرية كلها تريد الوصول الى مقصدنا الذى امتلأ وفاض على طول شارع النيل وطرقه الجانبية دون ان تتوقف هتافاتهم واذكارهم فهي مزيج من نوع اخر غير الذى جسده القدر وافتعلته الظروف ، مزيج لكنه يخرج متناسقا فهتافات الاتحاديين وشعاراتهم السياسية لا تحس فيها بالنشاذ عندما تتلاقي فى الهواء الطلق مع همهمات واوراد الطرق الصوفية ، من هنا تشعر بالتسامح الذى يعلو وجوه الجميع بسطاء فى كل شئ ينادون بهتافات ويرفعون شعارات امنوا بها يحفظون ماردده لسان فقيدهم، الذي حضروا ليلقوا عليه نظرة وداع «لا لقطرة دم سودانية واحدة نعم للسلام »، واللافت للنظر بين ماتحمله تلك الايادى من اعلام هو الجمع بين علم الاتحاديين والحركة الشعبية ، كل تلك المشاهد وساعة الوقت تتحرك نحو الموعد المضروب لنزول السيدين الى ارض الوطن ومع كل دقيقة تمر ترن اجراس الهاتف منادية الذين يرابطون بالمطار لمعرفة ماهو الجديد هناك .
لم تأت الواحدة بذلك المنتظر لكن ساعة الوقت عندما تجاوزت الثانية بست وعشرين دقيقة كانت طائرة صن اير قد حطت بارض المطار، قبلها انتشر الحرس الجمهوري باللباس الابيض وبجانبهم موسيقى القوات المسلحة بالاحمر لتختلط المشاعر من جديد بشكل غير الذى كان، فمريدو الختمية ضربوا بالتوجهات المتفق عليها عرض الحائط، واصطفوا على جنبات المطار الذى انطبقت عليه مقولة اطلقت فى ذات الصباح بارض العم سام ، فالاعلاميون الذين حضروا هنا بمطار الخرطوم يشعرونك بان الكل يعمل بالاعلام فهم فاقوا حد التصور ، الثانية والثالثة والثلاثين موعد نسف كل السيناريوهات التى كانت معدة من قبل ،الان مولانا محمد عثمان الميرغني يطل عبر بوابة الطائرة ، ويهم بالنزول عابرا صفين من الدستوريين ومشايخ الطرق الصوفية دون ان يصافح احدا، وقام بمصافحة نائب الرئيس علي عثمان محمد طه الذى كان فى استقباله ، وبعدها بدأت مراسم نقل النعش الذى حمله ثمانية ضباط برتبة اللواء يمثلون كل وحدات الجيش المختلفة ، ويلتف الجميع حول مولانا قبل ان يتحرك الموكب الى جنينة والده بشارع الجامعة ، الكل هنا يغلى فى انتظار السيدين اصطفوا مفسحين الطريق بشئ من العنت لكثرة الحشود بشارع النيل ، الا ان الموكب عدل مساره ليأتى عن طريق شارع الجامعة تتقدمه مواتر وعربة التشريفة الرئاسية وخلفها العربة التى تحمل الجثمان وبعدها جاءت عربة الرئاسة التى تحمل الرقم 158 وبداخلها مولانا محمد عثمان الميرغني يلقى النظرات من النافذة خلف مقعد السائق ، وبمجرد ان اقتربت العربة من المنعطف لتدخل الى المحطة الاولى ببوابتها الشرقية اخترق احد المريدين الشباب الموكب وانطلق كالصاروخ متشبثا بايدى السيد محمد عثمان وبعدها انطلق الجميع نحوه وهو ظهر بجسده عبر النافذة ليجسد لحظة عناق ومصافحة حقيقية من مريديه قبل ان تتدخل اتيام التأمين وتفض الجميع ، هنا بدأت هتافات وهستيريا من نوع اخر لا احد يستطيع ان يجد موطئ قدم، الكل يحاول الوصول الى السيد ويرددون «لا سودان بلا عثمان » وبعد عناء وجهد تمكن السيد من عبور تلك الحشود ليدخل الى الصالون المعد بداخل جنينة والده ومن خلفه قيادات حزبه والطرق الصوفية ، وبين تلك الجموع التى ظلت هاتفة باسم مولانا تدخل الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم لتتحول الهتافات وبصوت واحد «مرحب مرحب بالحلفاء» فها هو رئيس التجمع بالخرطوم وامينه العام يتقدم ليبادله التحايا والعزاء.
شارع السيد علي لا احد يستطيع ان يتقدم الا بعد عناء، الحشود متسمره بمكانها نسبة للكثافة الجماهيرية التى ملأت المكان ، امتداد الشارع كله يهتف عاش ابوهاشم ، لن ننساك يا أحمد ، وعلى الرغم من الرهق وطول ساعات الانتظار الا انه كلما تقدم الوقت تدافع الناس صوب المكان الذى سيوارى به جثمان رأس الدولة، جوار والده .
الان الساعة تجاوزت الثامنة باكثر من تسع واربعين دقيقة، الجميع يتدافع نحو الموكب الذى تحرك قبل قليل صوب مسجد السيد علي ببحري المحطة الاخيرة، هتافات مستمرة وحشود ضخمة ستغني حي حلة خوجلى والدناقلة لسنوات بل لقرون لتحكى عن الذى تم هنا ، التاسعة والربع جثمان السيد أحمد الميرغني مسجى جوار قبر والده الذى يرقد منذ العام 1968م ويتقدم مشيعوه: رئيس الجمهورية عمر البشير، وشقيقه الاكبر مرشد الختمية ورئيس الحزب الاتحادى الديمقراطى، وزعيم المؤتمر الشعبى الدكتور حسن الترابى، وقيادات الاحزاب السياسية، وقيادات العمل التنفيذى بالدولة، وجمع غفير من مشايخ الطرق الصوفية، والجماهير .
يوم لن يتكرر فى القريب العاجل من عمر البلاد فالجموع التى احتشدت دون دعوة من احد راجلين وراكبين نساء ورجالا اختلطت مشاعرهم بين الفرح والحزن ، ارسلوا مجموعة من الاشارات ستجد من يجلس ليحسبها بعد انجلاء غيمة الحزن التى لم تجف امطار دموعها بعد منذ ليلة رحيل رأس الدولة السابق السيد أحمد عثمان الميرغني لكن حتما ستنجلي .
عباس محمد إبراهيم :الصحافة [/ALIGN]