رأي ومقالات

بنوك في الظِّلْ ..!!

[JUSTIFY]قلنا في مقال سابق إن البني آدمين ــ أي بني آدمين ــ لديهم عقول يفكرون بها.. وتتصف تصرفاتهم بالعقلانية التي عادة ما تتماشى مع قوانين الطبيعة وفقاً لقانون نيوتن في الفيزياء بتاع «تدافع القوى» الذي يقول إن «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه».. وقانون فيزيائي آخر يقول إن «الطبيعة تكره الفراغ».. وهذا يعني أنه طالما وُجد فراغ ــ في أي مكان ــ يتم امتلاؤه بمادة أخرى.. مثلاً لو قمنا بإفراغ «باقة» من الحليب أو الماء فإنها سوف تمتلئ بالهواء.. وإذا افرغناها من الهواء بالتسخين فإنها سوف «تتعفص» و« تتفجخ» حتى لا يكون هناك أي حيز أصلاً ليمتلئ بأي شيء..

وهذه القوانين أيها السادة ــ القراء ــ وأيها السادة مديري البنوك بالسودان وأيها الإخوة الزملاء في البنك المركزي تهيمن على مجمل الأنشطة الحياتية سواء في مجال الاقتصاد أو السياسة أو حتى المجالات العاطفية.
ويهمنا هنا أن نواصل اليوم حول قضية البنوك غير الرسمية « Informal Bank» حيث قلنا إن البني آدمين من رجال الأعمال وجدوا أن البنوك ضعيفة الرساميل وأنها مقيدة ومكبلة في حركاتها وأن رأس مال أفضلها لا يزيد عن أربعين مليون دولار ورأس مال معظمها في حدود العشرين.

ووجد رجال الأعمال لو أن واحداً منهم «دقّ سدرو» وقرر أن ينشئ مصنعاً ضخماً للدقيق ــ زي بتاع ناس دال ــ فإنه سوف يحتاج إلى شيء في حدود اربعمائة مليون دولار.. وإذا بحث هذا المواطن عن التمويل فلن تكفيه كل رساميل بنوكنا «المحلية والأجنبية والمشتركة والحزبية والبدون».. ولهذا نقول إن رأس مال بنوكنا ضعيف إما أن «نرفعه» ليواكب احتياجات التنمية أو «ندمج» البنوك كلها في «بنكين تلاتة وبس».. وأشرنا إلى إن التنمية الزراعية والصناعية لا تتم إلا في سوق تمويل فسيح ومتسامح ومتفهم وضخم وودناس.. ولهذا فإن نهضتنا الزراعية لن تقوم لها قائمة مهما تعب أصدقاؤنا ناس عبد الجبار حسين ومهما شقي و«كورك» ناس بروفسور قنيف ومجموعته طالما أن البنوك القادرة غائبة عن المسرح.. وللمقارنة فإن بنكًا واحدًا في مدنية صغيرة مثل دبي لا يقل رأس ماله عن خمسين مليار يورو وبالطبع يكون قادراً على استقطاب الاستثمارات والودائع والتمويل المكافي.

وفي ظل هذه الظروف الضاغطة على رجال الأعمال في السودان ومع شح موارد التمويل ظهرت البنوك غير الرسمية.. وهي عبارة عن دكاكين أمامها سيارات فيها موظف أو اثنين ومعهم متعاونون بعضهم «سماسرة» وآخرون منهم «جوكيه» وبعضهم «صواريخ» والبعض منهم «حديَّات» والكثيرون منهم «نحّالة».. ووظيفة «الحديّة» أن يحلق مثل الطيرة من مكان لآخر ويجمع المعلومات والنحّالة هم الذين يقتنصون الفرص.. هذه البنوك غير الرسمية تتوزع في الخرطوم وفي مدنها الثلاث وقد يصل عددها إلى أكثر من خمسمائة بنك وتزيد ونضيف لها ثلاثة آلاف موقع آخر لبيع «الاسكراتشات» صارت هي الأخرى نقاطاً لجمع السيولة ونوافذ للتعامل النقدي. وفي الجميع تتوفر سيولة يومية لا تقل عن أربعمائة مليون جنيه في كل بنك وكل وكالة يتم تداولها تحت مسمى بيع العربات وشراء الدولار وتحويل الاسكراتش ولكن في حقيقة الأمر يا سيدي محافظ بنك السودان ويا سيدي وزير المالية يتم بيع «قروش عاجلة» بي «قروش آجلة» لمدة شهر أو شهرين على الأكثر وبربحية «ربوية» تصل إلى أكثر من 30% في الشهر الواحد.. هذا يعني أن البنوك غير الرسمية «المطلوقة» ساكت تعمل بحجم مائة وخمسين إلى مائتي مليار يومياً يضاف لها شركات الاتصال في حدود مائة مليار يومياً. وهذه البنوك لديها زبائن ولديها متعاملون وأصحاب ودائع.. ولديها قوانينها.. وناسها الذين يجمعون المعلومات عن الزبائن ولديها «الأبضايات» وهم قوم غلاظ شداد يقومون بإجبار المدين على الدفع ولديهم الوقت والجرأة لمساككة المدين في المحكمة ولا يقف الأمر عند مسألة التسهيل والقرض المكلف ولكن توجد أيضاً بنوك مركزية تقوم بإدارة الشؤون «الكلية» لهيئة البنوك.. ومثلما أن السيد محافظ البنك المركزي يصدر قوانين ولوائح للبنوك الرسمية فإن «ستة أو عشرة» جهات في «السوق» تمثل البنك المركزي لخمسائة مصرف غير الرسمي وتتشاور معهم يومياً حول سعر الدولار والنسبة المئوية للربح الربوي وقد تتدخل في «حلحلة» القضايا الشائكة بين كبار المدينين وكبار الدائنين ويتم عندها فصل الخلافات في النزاعات المالية الكبيرة مع العملاء ومنهم من يهرب ومنهم من يخندق ومنهم من يلقى الله ومنهم من يفقد كل ممتلكاته ويصبح متسولاً.

مثلاً من المعروف أن بعض تجار الدولار الكبار ومن خلفهم مجموعة «الخمسة» التي اشتُهرت بأنها «تصفصف» كل الدولارات وتوفر معظم السيولة لأعمال الخمسمائة بنك هي التي ربما تصدر الأوامر واللوائح ولا يحتاج الأمر إلى مناشير مكتوبة فقط تلفون مبكر من «أحدهم» يصير أمراً قابل النفاذ يخرجه وهو يعالج «تف السفّة».. وهذا يعني أيها السادة أن حجم السيولة التي يتعامل النظام «البنكي غير الرسمي» ومعه البنوك المركزية غير الرسمية قد تعادل ثلاثمائة ضعف السيولة المتاحة للبنوك الرسمية وهذا هو نفس ما يجعل مؤسسات الحكومة وبنوكها تبدو وكأنها مثل «العتود المرضان» بينما البنك غير الرسمي وأهله يبدو مثل «الخروف الشبعان» والخلاصة يا جماعة رضينا أم أبينا فإن هناك بنوكاً غير رسمية يبلغ عددها عشرين ضعف عدد البنوك المصرح بها ولديها بنوك مركزية تديرها ولديها عصابات حولها وقد تلتقي معها بعض الأيادي الخفية سواء من المعارضة أو الحركات المتمردة أو أدوات التهريب المنظم أو غسيل الأموال وكل هؤلاء يشكلون تسعين في المائة من حركتنا الاقتصادية والتجارية وهي حركة غير منضبطة ومن المؤكد أنها تعمل على تدمير البلاد وفق مخطط استعماري قد يكون مدروساً ومفهوماً للبعض ولكن من هو ذلك الذي يستطيع أن يقول إن البغلة في الأبريق؟!! واليوم أقول لكم إنني أرى بغلة تخرج من فم الأبريق.. وأطلب من الحكومة أن تتوكل على الله وتدق «ميزيكة» الجيش في النظام الاقتصادي…

صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]