تحقيقات وتقارير

الحكومة السودانية والجبهة الثورية.. جرد الخراب

[JUSTIFY]قبل أن ينجلي غبار انهيار مباحثات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية (قطاع الشمال) بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا في 26 أبريل/نيسان 2013م، ارتفع غبار معركة أخرى على الأرض في اليوم التالي الموافق 27 أبريل/ نيسان، بهجوم قوات الجبهة الثورية على منطقة شمال كردفان.

وتحولت على إثر هذا الهجوم مناطق أم روابة الحيوية التي تبعد نحو أربعمائة كيلومتر غرب العاصمة الخرطوم، إلى ساحة معركة جديدة، وأم كرشولا إلى أرض محتلة، والسميح إلى بقعة معركة أخرى، لتتجلى مظاهر الحرب الأهلية منتقلة بحمولتها المأسوية من جنوب كردفان والنيل الأزرق. وحاكت المجزرة التي ارتوت منها رمال شمال كردفان، مجزرة هولاكو التي حوّلت نهر دجلة إلى اللون الأحمر القاني.
كيان الجبهة الثورية

بالعودة قليلاً إلى الوراء فإنّ “وثيقة كاودا” قامت بإصدارها الحركة الشعبية (قطاع الشمال) الفصيل الأكبر بقوات الجبهة الثورية بقيادة مالك عقار مع ثلاث حركات مسلحة أخرى لإعلان تشكيل الجبهة الثورية (تحالف كاودا) في جبال النوبة، وتم التوقيع عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011.

وتكونت الحركات المسلحة من حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان قيادة منّي أركو مناوي، وحركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور. ومن هذه الحركات كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال) قد شاركت في الحكم بناء على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005، كما دخل منّي أركو مناوي القصر الجمهوري مساعداً لرئيس الجمهورية بعد توقيع اتفاقية أبوجا عام 2006. وذلك قبل أن يخرج منه مغاضباً ويلتحق بالحركات المسلحة في دارفور.

جاء هدف هذه الحركات مُعلناً في إسقاط النظام الحاكم بالقوة العسكرية المسلحة وتأسيس دولة جديدة على أنقاضه، وهو ما جعل خيار التغيير الذي انتهجته المعارضة السودانية يتبعه من الاتجاه الآخر تصعيد عسكري مباشر، عمل على تشتيت تركيز الحكومة وقواتها بتوسيع ساحات المعارك وفتح جبهات جديدة في استعراض واضح للقوة العسكرية واجهته الحكومة باستعراض آخر غرضه هو تطويق قوات الجبهة الثورية.

أخذت الأحداث في التواتر عندما دُعيت أحزاب المعارضة إلى وثيقة كمبالا (الفجر الجديد) التي تم التوقيع عليها في 5 يناير/ كانون الثاني من هذا العام 2013 من قبل الجبهة الثورية لتحالف كاودا وتحالف قوى الإجماع الوطني الممثلة لأحزاب المعارضة. وهو ما جعل الحكومة تحاول الوقوف كحائط صد في وجه أي حراك عسكري، غير أن ما قامت به ارتد إليها، بدلاً عن تحقيق هدف عزل الجبهة الثورية وتطويق قدراتها.

توحدت الجبهة الثورية من انقسامات الجماعات المسلحة، وكان بإمكان الحكومة السودانية التفاوض معها كتنظيم واحد للوصول إلى حلٍّ شامل، ولكنها انتهزت فرصة إصرار بعض الحركات على التفاوض معها منفردة فعملت على ذلك. ورأت أنّ هذا بإمكانه أن يحقق نتائج ووسيلة ضغط على الحركات ويضمن تنازلاتها، غير أنّ التفاوض مع كل حركة على حدة أضرّ بعملية السلام والوصول إلى اتفاق وسلام شامل.

تجزئة المفاوضات إنّ نظرية إستراتيجية تجزئة التفاوض التي تم الاتفاق عليها عبر وسطاء وشركاء الإيقاد بعقد اتفاقيات سلام منفردة أدت كنتيجة حتمية إلى تجزئة الحلول والنتائج، خاصة وأنّ هناك قضايا شائكة أمام أطراف التفاوض لا يكفي الاعتماد فيها على عوامل الشخصية الكارزمية لأي من قيادتيهما.

وفي هذه الحالة فلن يعيد التاريخ نفسه مثلما فعل مع الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي هرب إلى لندن فور سقوط العاصمة الفرنسية في يد القوات النازية عام 1940، من غير قوات أو عتاد، ولكن بفضل شخصيته الكاريزمية وبراعته في التفاوض حصل على نصيب الأسد في نتيجة حرب الحلفاء ضد النازيين وتمكن من استعادة الإمبراطورية الفرنسية كلها.
لم يكن بالإمكان إحلال السلام في السودان إلا بتوقف الآلية الأفريقية رفيعة المستوى والمجتمع الدولي، والقوى السياسية السودانية عن دعم الدخول في مفاوضات جزئية لوقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ثم هذه الأزمة المستحدثة في إقليم شمال كردفان.

وكان من الأجدى أن تتحول منابر المفاوضات المختلفة في الدوحة وأديس أبابا والتي تقودها الوساطة القطرية والوساطة الأفريقية إلى منابر للتفاوض حول قيام عملية سلام شامل دون إقصاء لأي طرف على حساب الآخر، ودون بذل ترضيات واستقطاب حركات على حساب أخرى مهما اختلفت الرؤى في الوصول إلى حلول شاملة.

إنّ الاتجاه العام الذي استحوذ على معظم التحليلات في هذا الشأن يؤكد أنّ تجزئة التفاوض هي التي تقود إلى ارتفاع سقف المظالم والشكاوى من مشاكل التهميش، وهو ما يؤجج فتيل الصراع والحرب التي كلما أطفئت شعلتها استولدت ألف شعلة. وتستمر وفقاً لذلك دوامة المفاوضات اللانهائية وتصدير حالة الصراع وعدم الاستقرار إلى مناطق أخرى لتتسع رقعة الاحتراب، ويعيش سكان هذه المناطق في دورات متصلة بين الحرب واللاحرب.

إنّ التصعيد الذي حدث هو نتيجة لزيادة التوتر داخل النزاع الموجود أصلاً، فالنزاع نتج عن رغبات متضاربة في تحقيق كل طرف لما يريده، ولكن هذه الرغبات تجاوزت الوسائل السلمية المتمثلة في التفاوض لتتطور إلى تدمير الخصم.
ومهما كانت الرغبة في التصعيد فإنّها لا تبرر زحف قوات الجبهة الثورية لإدارة معركة على أرض شمال كردفان، بينما الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال) لم تخط آخر خطواتها من مقر المفاوضات مع الحكومة في أديس أبابا.
ويعدُّ هذا أحد نماذج التصعيد الذي حصره فريدريش جلاسل الباحث في شؤون النزاعات، والذي قال قولته الشهيرة “إن الطريق إلى التصعيد مرصوفة بفشل محاولات إصلاح ذات البين” في تسع مستويات.

وهذه المستويات هي: التصلب في المواقف، النقاش والجدل العنيف، الأفعال بدلاً عن الكلمات، التحالفات، الإهانة وإلحاق الخزي، إستراتيجية التهديدات، الضربات التخريبية المحدودة، تشتيت الخصم، ثم أخيراً مستوى “معاً نحو الهاوية”. وهذا المستوى الأخير تصل فيه الأطراف إلى مرحلة المواجهة الشاملة حيث لا أمل في العودة نحو الخلف، بحيث يصبح تدمير الذات مقبولاً إذا كان ثمنه تدمير الخصم.

ماذا بقي؟ واليوم بعد عامين من انفصال الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011، يسوقنا ازدياد العنف إلى مزيد من الخراب والسير نحو الهاوية والتدهور الذي عطّل عجلة الاقتصاد وزاد سوء الوضع السياسي على سوئه.
ومن سوء حظ وتدبير أنّه حتى بعد ذهاب الجنوب للانفصال أو الاستقلال ورّث اسمه ومشاكله إلى الجنوب الجديد الذي ما زال ينزف منذ بتر ذلك الجزء من الوطن منه، وما زال يستقبل الكثير من السهام القاتلة المرتدة إليه من أبنائه.
ويوماً بعد يوم تزداد المآسي الإنسانية فقد نزح من أبو كرشولا وحدها حوالي عشرين ألف نازح إلى مدينة الرهد بولاية شمال كردفان، ليتم إضافتهم إلى جموع المتأثرين والنازحين منذ اندلاع الأحداث في جنوب كردفان والذي بلغ 284 ألفاً وثمانين ألفاً في النيل الأزرق.
وأهالي المنطقة بين النزوح وتجديد دورة العنف وتفاقم الوضع الإنساني هم أبعد من عودة الأطراف المتنازعة للتفاوض والحلول السلمية، وأقرب إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتقويض جهود المساعدات الإنمائية والانسانية.
وهذا كله نسف تطلعات مواطني مناطق الهجوم وأشواقهم إلى الحماية والأمان التي من المفترض أن توفرها أجهزة الدولة، مما دعا بعض أبناء هذه المناطق إلى التهديد بالانضمام للجبهة الثورية في حالة لم تملكهم الحكومة المعلومة كاملة تجاه ما يجري في مناطقهم ومعرفة حقيقة الأوضاع الأمنية وحماية أراضيهم وتحرير أبو كرشولا.
ولكن الإدانة الداخلية لفشل الحكومة في حماية المدنيين كان كأنه كلام الليل يمحوه النهار. وذلك لأنّه حينما طالب نواب البرلمان بمساءلة وزير الدفاع السوداني عبد الرحيم محمد حسين، ودعا بعضم الوزير إلى تقديم استقالته على خلفية وجود معلومات مسبقة عن الهجوم قبل عدة أيام من حدوثه، برزت أصوات مدافعة عن الوزير ورفضت حتى مبدأ مساءلته.
لا تزال دماء الأبرياء تنزف هنا وهناك حتى زحف حمام الدم وشمل منطقة أخرى هي (أم برمبيطة) بولاية جنوب كردفان مما ينذر بفواجع أكبر في الطريق من تلك التي أصابت السودان وساهمت في اشتعال الفتنة.
لا يمكن إلقاء المسؤولية على طرف دون الآخر، فالدماءُ المسكوبة تقع مسؤوليتها على الأجهزة الحكومية، وجزءٌ من المسؤولية يقع على عاتق الأحزاب السياسية التي لا تملك حق المحاولة في إرجاع البلد من حافة الهاوية.
كما إنّ نواب البرلمان على مختلف انتماءاتهم والذين طالبوا بمساءلة وزارة الدفاع بصفة قانونية ودستورية، هم أيضاً على نفس الدرجة من المسؤولية بصفتهم السياسية باعتبارهم ممثلين للشعب في البرلمان. وهي مساءلة لكل هؤلاء عن الفشل والتقصير عن دعم أي اتجاهات لتحقيق السلام.
وتجيء مساءلة وزير الدفاع بحسب النواب بموجب التزام وزارته الدستوري الوارد في الدستور القومي الانتقالي لسنة 2005 والذي ينص على حماية سيادة البلد وتأمين سلامة أراضيه، وتحمل مسؤولية الدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية والذي يجعل من صميم اختصاصاتها الدفاع الوطني وحماية الحدود الوطنية، بالإضافة إلى الاختصاصات المضمنة بقوانين القوات المسلحة والأمن الوطني.
وكرد فعل قوي ومتكرر في مثل هذه الحالات، فعندما اتهمت المعارضة الحكومة السودانية بالتقصير في حماية البلاد والمواطنين، واجهتها الحكومة بأنّها ليست سوى طابور خامس، ذلك المصطلح المستهلك الذي أصبح المشجب الذي تعلق عليه الحكومة أخطاءها وتقصيرها وتلتقطه عند الأزمات والمنعطفات التي تجد فيها نفسها وجهاً لوجه أمام المساءلة.
وقد سبق أن دمغت الحكومة المعارضة السودانية بصفة الطابور الخامس إبان أزمة هجليج في أبريل /نيسان عام 2012، جراء اعتداء قوات الجيش الشعبي لدولة جنوب السودان عليها. وقالت الحكومة حينها إنّ المعارضة تعمل من داخل الخرطوم لبث الشائعات بوجود نقص في المواد التموينية والكهرباء والخدمات، ثم تحولت المناكفات إلى اتهامات مباشرة للمعارضة بأنها متواطئة مع دولة الجنوب لإسقاط النظام.
الآن تنتصب أمامنا مقولة جنكيز خان (الملك العالمي) “أنا على استعداد بالتضحية بنصف شعب المغول لكي يستقيم النصف الثاني”. وهكذا تفعل الحكومة السودانية والجبهة الثورية، فالحكومة لن يثنيها شيء من التضحية بشعب المنطقتين ما دامت ترى الاستقامة في التمكين وتثبيت قواعد الحكم إلى أكثر من ربع قرن من الزمان.
ونفس الشيء تفعله الجبهة الثورية فمنذ بدايات تكوينها استعدت لهذا التحدي وكان الضحايا هم شعب جبال النوبة والنيل الأزرق، وأهل دارفور، ثم حالياً شمال كردفان، ليتسنى لها كسب ما تبقى من السودان. وبهذه الضربة المزدوجة تكون الحصيلة هي محو نصف الشعب السوداني لتكون نسخة الوطن الجديدة بعد انفصال جنوب السودان، هي ما نراه ماثلاً أمامنا.

الجزيرة.نت
[/JUSTIFY]