البرلمان والصحافة .. من يراقب من ؟
ودلفنا بعد ذلك، إلى فذلكة تاريخية لمواقف وسوابق تعرض فيها النواب والمؤسسة التشريعية لهجوم شديد اللهجة، عالي النبرة، من قبل الصحافة السودانية في الحقب البرلمانية المتعاقبة، وبدأنا بأكثر الظواهر عرضة للنقد في مسيرتنا البرلمانية، وهي ظاهرة الغياب المتواتر، عن حضور الجلسات، وإضطرار رئاسة البرلمان لفض الجلسات بسبب عدم إكتمال النصاب القانوني.
والموضع الثاني الذي ظل يُشكل مدخلاً لمؤاخذة المشرعين عبر عهود الحكم المختلفة، إتهامهم بتمرير سياسات وتشريعات الحكومة، كما هي دون مناهضة تذكر أو إعتراض يؤثر، الا من القلة القليلة، التي لا يخلو منها مجلس، والتي تجهر بالرأي الآخر، المخالف لوجهة النظر الرسمية، وتقف في بسالة أمام طوفان الأغلبية النيابية، لا تأخذها في الحق لومة لائم، ولا يهمها كثيراً غضب السلطان، أو سخط الحكام.
وللحق فإن إتهام البرلمان بالخضوع والخنوع لمشيئة الجهاز التنفيذي، يمكن أن يصدق في ظل الأنظمة الشمولية، حيث لا تحتمل الحكومة ولا تَصبر على رأي مخالف، أو صوت معارض، بيد أن الحال مختلف بعض الشيء في عهود الحكم التعددي حيث تنشط المعارضة وتتربص بالحكومة الدوائر، بحثاً عن الأخطاء والزلات، وتتوقف المحصلة الأخيرة لمواقف المعارضة داخل البرلمان، وإلى حد كبير على الوزن البرلماني لهذه المعارضة، وقوة بأس آليتها الاعلامية، وفي الخاطر فعالية صحيفة (الميدان) اثناء فترة الديمقراطية الثانية وصحف الجبهة الاسلامية القومية إبان فترة الديمقراطية الثالثة- في دعم ومساندة كتلة الجبهة البرلمانية في السنوات الأولى لتلك الفترة التي كانت الجبهة فيها تقود المعارضة السياسية لحكومة السيد الصادق المهدي الائتلافية الأولى.
ü ومن الممارسات السالبة في تلك الفترة، ذلك التقليد غير الديمقراطي الذي درج نواب الحزبين الكبيرين الحاكمين (الأمة والإتحادي الديمقراطي)، على إتباعه آنذاك عند نشوء الأزمات، وفي مواجهة القضايا القومية الكبرى، إذ كانت الجمعية التأسيسية تتداول حيناً من الدهر حول الموضوع الهام وعندما تتشعب وتتباين الآراء بين شريكي الحكم، يقوم نوابهما بتفويض رئيسي الحزبين لإتخاذ القرار نيابة عن نواب الحزبين بل ونيابة عن الشعب السوداني باسره، كان هذا يعني باختصار شديد أن مشيئة ثلثي أعضاء الجمعية (أكثر من مائتي عضو) قد رهنت لرجلين اثنين، كانا ياكلان الطعام ويمشيان في الأسواق، مما يعني تجاوزاً للأسس والتقاليد والنظم الديمقراطية المعتادة، التي تكِل عملية إتخاذ القرار في أمهات القضايا القومية للمؤسسات الدستورية والحزبية، لا لرجلين بشرين، مهما سمت مواقعهم القيادية أو مراتبهم الطائفية، لأن ذلك يعني ببساطة، إختزال مجمل عملية صنع السياسات والقرارات، وكافة التدابير والآليات الشورية في أشخاص عرضة للخطأ والصواب.
وعودة للحاضر، فقد تعرض المجلس الوطني الحالي إلى نقد مرير وإستهجان شديد، ليس من جهة الصحافة السودانية فحسب، ولكن من قبل كافة مكونات الرأي العام وأطيافه، وذلك بسبب الطريقة التي تعامل بها المجلس مع حزمة التدابير الاقتصادية القاسية التي دفعت بها الحكومة العام الماضي والتي استهدفت رفع الدعم عن المحروقات وبعض السلع الأساسية.
ومبعث السخط، أن المجلس رغم التصريحات النارية التي صدرت من بعض قياداته، ورغم إعلان معظم الأعضاء رفضهم القاطع لهذه الإجراءات، واقتراحهم بدائل لها لا تطال البسطاء والكادحين، رغم تلك المقدمات جاءت النتائج مخيبة للآمال ومحبطة للنفوس، إذ سرعان ما نسى الجميع تعهداتهم السابقة، واقبلوا على المقترحات الحكومية يجيزونها بما يُشبه الاجماع.
والذي أزعج المراقبين والمحللين، ليس مجرد تراجع المجلس عن موقفه السابق، وقناعاته المعلنة، فلربما نجد للاعضاء العذر إذ قد يكون تبين لهم وجه الحق لاحقاً، لكن التصرف غير المفهوم، هو صيحات الحماس والإبتهاج التي صاحبت التصويت على التدابير الحكومية، وكأنها أهازيج نصر وفرح غامر.
توقع الناس أن يقول البرلمان والإحمرار يصبغ وجهه، والحرج يكسو ملامحه، أنه مضطر ركب الصعب، وأنه مجبر أخاك لا بطل، وإنه وافق على هذا الدواء المر وابتلعه كما يبتلع العلقم، بذات الطريقة التي عبر بها الإمام الخميني عندما أُجبر على قبول وقف الحرب مع العراق، وخيل للناس يومها أن جلسة البرلمان الشهيرة تلك، سوف يخيم عليها الحزن والإشفاق، لا اصوات البهجة والحبور.
مثل هذه الأشياء تبدو صغيرة وبسيطة عند الوهلة الأولى، لكنها كالوميض تحت الرماد، تُحدث آثاراً عميقة في الوجدان الشعبي، وتحفر أخاديد غائرة لا تندمل بسهولة، ولعل من الحكمة أن يزن القادة كلماتهم قبل إطلاقها، حتى لا تصدم المشاعر العامة بتصريحات وتصرفات لها عواقبها السالبة، وأن صدرت عن حسن نية وطوية.
وكلنا يذكر رد الفعل الغاضب ضد تعريض الرئيس الراحل نميري- في أواخر عهده- بالبسطاء والعامة من أفراد شعبه، وكذلك الثورة العارمة التي قوبلت بها مقارنة شيخ العرب الراحل د. عمر نور الدائم في البرلمان عقب سقوط الكرمك بأنه لا توجد مشكلة لأن برلين نفسها قد سقطت قبلها في الحرب العالمية الثانية وقد يكون الرجل يقصد أن الحرب كر وفر، لكن الناس فهموا العكس تماماً وأن قطب حزب الأمة يستخف بمصائب الوطن وانتكاساته.
صحيفة آخر لحظة
د. محمد احمد سالم