الطيب مصطفى : وَتَرَجَّل الفَارِسُ أَخِيْراًَ
كان فريد عصره ونسيج وحده مختلفاً في كل شيء خاصَّة في صدق اللهجة الذي يطفر من بين شفتيه يقول ما يؤمن به ولا يبالي أو يكترث لأثر ذلك على مستمِعيه.
كان والله يذكِّرني بابن الخطاب عمر.. إذا تكلَّم أسمع وإذا ضرب أوجع وإذا مشى أسرع بل إنه يحمل صفة أخرى (عُمَريَّة) تتمثل في الثبات على المرجعيَّة.. يبني مواقفَه كلَّها عليها لا يحيد عنها قيد أنملة وهكذا كان عمر يجادل حتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حامل الرسالة ومتلقِّي الوحي من ربِّه!!
عاش يس عمر حياتَه من أجل الدعوة إلى تمكين دين الله في الأرض ليس في السُّودان فحسب وإنما في كل مكان ولذلك تجد وقع أقدامه محفوراً في مواطن كثيرة من أرجاء الدنيا وهذا ما يحتاج إلى توثيق أرجو أن يعكف بعضُ المتخصصين على تمحيصه ونشره فقد كان الرجل موجوداً في قلب القضيَّة الفلسطينيَّة وفي عددٍ من دول الجوار والدول البعيدة وهذا حديث يطول.
كرَّس فارسُنا المغوار حياتَه من أجل إزالة حالة الاستضعاف التي يُعاني منها الإسلام خلال فترة الخمسينات والستينات من النخب المثقَّفة حيث كان اليسار مُهيمِناً على السَّاحة وكان الحزب الشيوعي السُّوداني هو الأقوى بين جميع الأحزاب الشيوعيَّة في المنطقة العربيَّة والإفريقيَّة بل ربما كان الأقوى في العالم الثالث.. كان صوت اليسار هو الأكثر دُوِيَّاً وكانت القوى السياسيَّة التقليديَّة تتهيَّب فجور اليساريين وطول وبذاءة ألسنتهم وما كان من خصم مؤهَّل للعب دور تغيير ذلك الواقع غير الحركة الإسلاميَّة.
كانت فترة هيمنة اليسار بإعلامه ونقاباته وتنظيماته وخبراته واتحاداته الطلابيَّة تذكِّرني بفترة مكة في بداية الدعوة الإسلاميَّة.. كان صوت اليسار والقوى العلمانية جهيراً وقويًا وكانت الحركة الإسلاميَّة تتحسَّس طريقَها في صمت وتحاول أن تتمدَّد في قطاع الطلاب.
من نِعَم الله على العمل الإسلامي وقتها قدوم د. الترابي من باريس متأبِّطاً درجة علميَّة كبيرة وكاريزما مُدهشة زادها ألقاً دورُه في ثورة أكتوبر وقدرات تنظيمية وفكرية متميِّزة فكان أن اجتمعت قدرات الترابي وصلابة يس عمر لتُحدث اختراقاً كبيراً في مسيرة العمل الإسلامي وكان حل الحزب الشيوعي السُّوداني الذي قاده الترابي ويس عمر بمثابة قاصمة الظهر التي عَصَفَت باليسار وحَسَمَت المعركة لمصلحة المشروع الإسلامي الذي تبنَّته بعد ذلك جميع القوى السياسيَّة تقريبًا في أطروحاتها وبرامجها.
شريط من الذكريات يجول بخاطري أذكر كثيراً من جلساته بين يدي يس عمر في اجتماعات الحركة الإسلاميَّة داخل وخارج السُّودان وفي اللقاءات الاجتماعيَّة وفي اجتماعات العمل الصحفي.. شريط مُدهش من العطاء أُوقن أن الأقرب إلى يس هم الأقدر على رصد أسراره وكشف مكنوناته.
كان يس زاهداً في حطام الدنيا على غير الكثيرين ممَّن ولغوا في حرامها وحلالها تنازل يس للشيخ علي عثمان الذي يصغره ربما بعقود درس أي درس في زمن التناحر على السُّلطة والثروة.
أمثال يس في الغرب يكتبون مذكراتهم حتى ولو كانت تافهة ومن أولى من يس ليسطِّر شيئاً من مسيرة حركة الإسلام في السُّودان خاصة ما يتعلق (بالفتنة الكبرى) التي ضربت الحركة الإسلامية والتي لا تزال تفاصيلها طي الكتمان خوفًا وطمعًا من خروجها إلى العلن؟!.
رحم الله يس عمر الإمام وأسكنه فسيح جناته فقد شهدنا بما نعلم من صدقه وتجرُّده وتفانيه من أجل القضيَّة التي نذر لها حياته.[/JUSTIFY]
الطيب مصطفى
صحيفة الإنتباهة