تحقيقات وتقارير

“سلفا كير” لـ”البشير”: (بشوف في شخصك أحلامي)


[JUSTIFY]تتشابه الأحداث في (السودانين) الشمالي والجنوبي حد التطابق، الحافر بالحافر والنعل بالنعل.. الأسماء هي الأسماء، والأشياء هي الأشياء.. والصراعات على أشدها من أجل السلطة.. معارضة مسلحة هناك تحمل السلاح في جونقلي وشمال أعالي النيل، ومعارضة هنا تتخذ البندقية وسيلة للتعبير عن الرأي.. يتبادل السودانيون في الوطنين سياسة الأذى المتبادل ومحاولات الإقصاء والإزاحة.. وتفشل كلتا الدولتين في مسعاهما، وتظل وشائج الرحم والثقافة والدم أبقى وأقوى من صنابير وبلف البترول المهدد بالإغلاق من حين لآخر!! وفي السودان وزارة للمعادن وفي الجنوب كذلك.. هنا طرق وجسور وهناك مثلها.. في الشمال وزارة للعلوم والتكنولوجيا، وفي الجنوب أيضاً.. وفي الشمال وزارة الكهرباء والسدود يحرس بوابتها أحد شباب الإسلاميين، وفي جوبا جاءت التعديلات الأخيرة بأحد شيوخ الإسلاميين “عبد الله دينق نيال” وزيراً.. وفي الشمال اكتشف الرئيس (مبكراً) خطر الحزب الذي يحكم من وراء حجاب هو الرئيس نفسه، فوضع أمين الحزب في غياهب الجب سجيناً ورمى بأعباء أثقلت كاهله وقيدت خطاه وجعلته رئيساً لا يحكم إلا بأمر الشيخ والتنظيم.. وقبل حلول العام الثالث خطا الرئيس الجنوبي “سلفا كير ميارديت” على درب “البشير” خطوات و(رمى) بثقل الحركة الشعبية في قارعة الطريق، ونفض يديه عن (عقائدية) الحزب وأيديولوجيا التنظيم.. وأخذ على عاتقه حكم بلاده بما تمليه (مصالحه هو) لا بما تمليه عليه مصالح نخبة من أبناء التنظيم العاكفين حول هرمه القديم!!
وفي نظر الأستاذ “كمال الجزولي” أن الأحزاب العقائدية، ومنها بالطبع الحزب الشيوعي، حينما يغشاها شيطان السلطة تركب ظهر العسكر وفق نظرية (العَميان والأعرج).. يتفق (العَميان) على حمل الأعرج على كتفيه ليتولى الأعرج وصف طريق ومسلك يؤدي لمنجاة الاثنين، وحينما يشعر (العَميان) بثقل حمل الكسيح ويعتقد بأن الطريق قد بات يسيراً، يرمي به على حافة الطريق ويسقط هو بعد برهة.. تلك هي نظرية تحالف الجيش والحزب العقائدي، والأعرج في تلك الحال هو الحزب، تشبه حد التطابق الثورة التي صيغت بالدم القاني وهي الثورة البلشفية التي انتسبت إلى أيديولوجيا “كارل ماركس” الألماني التي طورها “فلاديمير لينين” الروسي.. ويعتقد الكثيرون أن “كارل ماركس” لو عاش الثورة البلشفية لوجد نفسه بعيداً عنها مثلما وجد “الترابي” نفسه بعد سنوات ثمانٍ من الحكم مطروداً من سلطة سهر من أجلها الليالي ووضع أساسها بالدموع والتضحيات، ولكن منطق السياسة غير منهج الصوفية في تقديس الشيخ وإعلاء شأنه ووضعه في مقام القداسة التي تقترب حيناً من (الألوهية).. والتنظيم السياسي الإسلامي حينما أسند لجناحه العسكري إنفاذ الانقلاب بعد أن اقتربت أحزاب أخرى من السلطة، وقررت جيوب العلمانية داخل المؤسسة العسكرية السودانية الانقلاب على النظام الديمقراطي وفرض أيديولوجيا (يسارية) على حزبين طائفيين الأمة والاتحادي الديمقراطي، وضع- الترابي- أرواح الضباط الذين كلفوا بالانقلاب على كف القدر، ومواجهة مصيرهم وحدهم إذا فشل الانقلاب في الوصول للإذاعة والقصر.. والتنظيم العسكري حينما نجح في تحقيق أهدافه، رفض (تسليم) لحيته طوعاً لمدنيين لا يعرفهم ولم يألف سلوكهم ولا يؤمن جانبهم، وسار معهم وهم على ظهره كالأعرج المحمول على ظهر الأعشى، حتى حانت ساعة (الفراق) في الرابع من رمضان لينشق التنظيم إلى نصفين، مختلفين في المقادير متفقين على ما يعرف بالثوابت، متنازعين على الزعامة.. هل للإمام الظاهر؟؟ أم للإمام الغائب؟؟ وعند الظاهرية وأهل الباطن كثير من المتقابلات والمتنافرات حتى في مدرسة الفكرة الواحدة، كالاختلاف بين الشهيد “حسن البنا” في مدرسته العملية ورفضه ونبذه للمدرسة الجدلية والمفكر “سيد قطب” الذي تنهض مدرسته على المجانبة والمفاصلة والامتناع عن الآخرين، وما بين فكر يزرع أرضاً وينثر حباً ويسقي شجراً وفكرة تميل لحفر الخنادق وبناء القلاع وممانعة نحو الآخر.. كان الاختلاف بين أركان المدرسة الواحدة (يشرعن) لاختلاف القائد العملي “البشير” والشيخ “الترابي”، مثل اختلاف مدرستي علم الباطن وعلم الظاهر، الذي برع روائي سوداني لم يحظ كثير من أعماله بالنقد والإضاءة التي يستحقها ألا وهو الدكتور “أحمد الطيب زين العابدين” من تخوم دار المساليت المنسية، برع في تجسيده، فقد جسدت رواية (دروب قرماش) الصراع بين الظاهرية والباطنية حينما اشتجر الشيخان واختلفا حول قدرة الباطنية على حماية قدح من اللحم يتم وضعه شرق القرية ليلاً ويكتب الفقيه الباطني تعاويذه لحمايته من الكلاب، ويتخذ الآخر من الظاهرية تدابير تحول دون وصول الكلاب لقدح مليء باللحم يتم وضعه في غرب القرية.. الشيخ الظاهري وضع روث الضباع حول القدح وحينما اقتربت الكلاب منه فاحت رائحة الضبع فهرولت هروباً منه حتى الصباح، ولكن قدح إمام الباطنية في القرية فشلت (تعاويذه) في حمايته من هجمات كلاب الليل.. وفي الصباح شهد أهل القرية على (الظاهرية) بالفلاح، وعلى (الباطنية) بالبوار.
وبعد إبعاد “الترابي” عن السلطة وعودته للسجن مرة أخرى، تفتحت أبواب الحوار مع القوى السياسية المعارضة التي كانت تنظر للوجه العقائدي للإنقاذ بالبغض، ولا يطيق رجل كـ”الصادق المهدي” رؤية صهره وغريمه “الترابي” ممسكاً وقابضاً على مفاصل السلطة، وينتظر ما يفيض به صهره عليه.. وبذهاب “الترابي” ظن الإمام “الصادق المهدي” أنه يستطيع لعب دور جديد، فاقترب من “البشير”، ودخل “مبارك الفاضل” القصر مساعداً، و(تحسنت) العلاقة مع نظام “مبارك” في القاهرة.. وعاد “معمر القذافي” إلى الخرطوم زائراً، وفتحت الولايات المتحدة خطوط تواصل مع الخرطوم أثمرت عن اتفاق (نيفاشا) الذي أنهى صراعاً دام (21) عاماً بين الشمال والجنوب، وكتب الرابع من رمضان، تاريخ إقصاء “الترابي” عن السلطة، عمراً إضافياً للإنقاذ، مثلما كتبت اتفاقية السلام عمراً ثالثاً للإنقاذ، والانفصال عمراً رابعاً.
وبتشابه الأشياء وتطابق أحداث (السودانين) الشمالي والجنوبي، فقد أنهى “سلفا كير ميارديت” بالإجراءات التي اتخذها أخيراً هيمنة حزب (الحركة الشعبية) الجناح السياسي لجيش التحرير الثوري الذي كان يتزعمه سابقاً الراحل د. “جون قرنق”، ووضع الأمين العام للحركة الشعبية قيد الإقامة الجبرية، وشكل لجنة تحقيق حكومية لمعرفة مصير أموال ذهبت للحركة الشعبية من خزينة الدولة الجنوبية، وأتبع الرئيس “سلفا كير” إجراءات إبعاد “فاقان أموم” من دائرة الحدث بإقصاء كامل لما يعرف بالحرس القديم للحركة الشعبية والاقتراب أكثر من تيار عريض من الجنوبيين من غير عقائدي الحركة الشعبية (أولاد) الراحل د. “جون قرنق” المؤمنين بنظرية صراع المركز والهامش، التي نجحت في حقبة الثورة في حشد التأييد للنظرية من ماركسيين وشيوعيين وعنصريين، وفق نظرية (قوس قزح) التي برع السياسي الكيني “مايكل أمبويا” من خلالها في مواجهة خصمه “دانيال أروب موي”، لكن الاغتيال الغامض لـ”مايكل أمبويا” كتب لثورته النهاية مبكراً.. فهل كان “سلفا كير ميارديت” ضابط المخابرات في الكتيبة (103) بحامية أعالي النيل على قناعة بنظرية صراع الهامش والمركز التي تمثل وجهاً لنظرية شيوعية أفريقية (محسنة)؟ وكثير من الاشتراكيين والشيوعيين الأفارقة اختطوا لأنفسهم دروباً ومناهج بعيدة عن الماركسية في مهدها ووطنها الأصلي.. وما بين اشتراكية “جوليوس نيريري” في تنزانيا التي ترتدي عباءة عنصرية تميل لإقصاء كل دماء عربية وإسلامية من أرض الزنجبيل، ونظرية اشتراكية ذات طبيعة براغماتية رأسمالية كالتي انتهجها “كوامي نكروما” في غانا و”أحمد سيكوتوري” في غينيا، تبضع “جون قرنق”.. تبضع من شذرات تنزانية ومنهج “يوري موسفيني”، واختط طريقاً لحركة زواج بين الشيوعية التي تستند إلى صراع الطبقات ونظرية صراع الهامش ضد المركز، وكثير من قيادات الجيش الشعبي كان يرفض سراً وفي خلجات نفسه الرؤية السياسية لـ”جون قرنق” وتفسيره لظاهرة التمرد على الخرطوم.. وتعرضت الحركة المسلحة الجنوبية لتصدعات كبيرة وتشظيات، مثل تمرد “رياك مشار” وخوضه حرباً في مثلث عرف بـ(الموت)، (واط أبود كنقر)، وحالت روابط القبيلة (الدينكا) دون انقسام “سلفا كير ميارديت” عن “قرنق” قبل التوقيع على اتفاق السلام مع الشمال.. وإن تبدت صراعات وسط (دينكا بور) و(دينكا بحر الغزال).. لكن شخصية “قرنق” (الكاريزمية) وقدراته الاستثنائية وسحره وبريقه كثوري حال دون انفصال “سلفا كير” عنه، ومعه د. “لام أكول أجاوين” و”تيلار دينق” ونخبة من القيادات الجنوبية التي كانت تنظر لـ”قرنق” وأفكاره لحكم السودان بعدم الواقعية السياسية، وتنكفئ هذه المجموعة حول نفسها وجنوبها، وتعدّ حصول الجنوبيين على اعتراف من الشماليين بحق تقرير المصير ينهي الصراع، وينبغي على الحركة الشعبية أن لا تثقل كاهلها بالنوبة والأنقسنا في النيل الأزرق وتبذل جهدها في سبيل دفع شعبها للتصويت من أجل الانفصال، وعبّر ثقافياً وسياسياً عن هذا التيار السيد “بونا ملوال” من خلال صحيفة (سودان ديمقراتك غازيت)، وخاض “بونا ملوال” حرباً ضد “قرنق” وجدت دعماً وسنداً من “سلفا كير”، الذي حملته الأقدار وتصاريف السياسة لرئاسة الحركة الشعبية دون قناعات راسخة بالحزب وفكره السياسي، وبعد سنوات من التجربة العملية يعود “سلفا كير ميارديت” إلى تيار القوميين الجنوبيين ويقذف بالجناح العقائدي في الحزب والجيش الشعبي إلى الرصيف مؤقتاً، وتلوح في الأفق بوادر انفصال ومفاصلة كالتي جرت في الخرطوم بين الوطني والشعبي، وطال مقص الإبعاد من الحكومة الجديدة كل التيارات المناوئة للرئيس “سلفا كير”، ومنح الرئيس أبناء “قرنق” إجازة ربما تقصر أو تطول.. لكن أسماء مثل “نيال دينق نيال” لاعب السلة الماهر وابن السياسي “وليم دينق” الذي مهر بروحه الوحدة بين الشمال والجنوب و”ربيكا قرنق” و”بيور الأسود” و”استيفن ويندو” و”دينق ألور”، وحتى “كوستنا ماتيبي” و”مارتن مايكل” و”جون أكول” و”جون لوك”.. كل هؤلاء النجوم وضعتهم التشكيلة الأخيرة لحكومة الرئيس “سلفا كير” في الرصيف وأبعدتهم عن صناعة القرار، وجاءت وجوه معروفة ببغضها الشديد لـ”جون قرنق” وأولاده مثل “تيلار دينق”، و”رياك قاي كوك” وزير الصحة، و”عبد الله دينق نيال” الذي رشحه المؤتمر الشعبي لمنصب الرئيس في الشمال فاختاره الآن “سلفا كير” وزيراً للكهرباء والسدود.. فهل يتبع “سلفا كير” قرارات إبعاد أولاد “قرنق” من واجهة السلطة في الجنوب بفك الارتباط بأولاد “قرنق” شمالاً، مثل “ياسر عرمان” و”عبد العزيز آدم الحلو” و”مالك عقار”؟ أم ينتظر صيفاً ساخناً لمواجهة التيار العقائدي الذي لا يمكن التقليل من قوته وتأثيره وتحالفاته الإقليمية والدولية؟! وقد أبقى “سلفا كير” على منصب نائب الرئيس شاغراً في انتظار توظيف أحد قيادات (النوير) لسد الفراغ الذي خلفه ذهاب “مشار” إلى صف المعارضة.. فهل يأتي “تعبان دينق”؟ أم “جيمس هوت”؟
الأيام القادمات حبلى بالأحداث شمالاً وجنوباً.. وكل سنة وأنتم طيبون.. وعيد مبارك وسعيد.

يوسف عبد المنان: صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]