رأي ومقالات
لحظات ما قبل التشكيل الوزاري الجديد
{ فالمغادرون، الذين غالباً تكون مغادرتهم إلى غير رجعة، ينتابهم شعور بالإحباط والاكتئاب والنقمة على الآخرين، وغالباً ما يقومون بإسقاط إبعادهم على بعض الناس الذين بينهم وبينهم خلافات أو عداوات فكرية أو حتى شخصية.. وغالباً ما تجتاح هؤلاء المغادرين نوبات من الغضب والحنق، خاصة وأن معظمهم ممن بهرهم صولجان السلطة والجاه والشهرة وليس من السهل عليهم ترك كل ذلك ببساطة.. وهذا يفسر غياب أدب الاستقالة عندنا و(الكنكشة) في المناصب الوزارية، وهذا يجعل من العسير إزاحتهم (بأخوي وأخوك) إلا بقرار رئاسي.. وبعد خروجهم قد يقوم هؤلاء بنوع من التفشي النفسي ومحاولة إحراج الآخرين عملاً بمقولة (المفارق عينو قوية)، وهذا تعبير عن الحالة النفسية التي يعيشونها، مما يدخلهم في صدمة مؤقتة تطول أو تقصر حسب شخصية الوزير السابق؟؟ وإن كانت تطول في هذه الأيام!! وبعد مرحلة الصدمة يقوم هؤلاء المقالون بإجراء نوع من المفاوضات أو التنازلات للعودة إلى السلطة مرة أخرى ولو حتى في مناصب أقل وأدنى درجة.. وإذا لم ينجحوا في ذلك فإنهم يعانون من حالة اكتئاب نفسي، ومن ثم يبدأون في محاولة تحقيق الذات، وذلك بعد أن (يقنعوا) من العودة، وتكون هذه المحاولات في شكل أعمال تجارية خاصة، أو البحث العلمي، أو العمل السياسي، أو حتى النزعة الدينية، أو الفلسفية والتي تكون عزاء لهم وبلسماً لتخفبف الألم النفسي.
{ على أن الخطير في هذه الفئة هو الرغبة في إطلاق الهواء الساخن عملاً بمقولة:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
وعين السخط تبدي المساويا
ونجدهم غالباً ما يحاولون التملص من أخطاء الماضي وأخطاء باقي (الإخوان) من الوزراء.. وأيضاً طلب العفو من الشعب والاعتذار، وكأنهم لم يسمعوا بأغنية:
من بعد ما فات الأوان
الليلة جاي بتعتذر
وترجع أيامنا الزمان
من وين أجيب ليك العذر؟!
ولله در شعبنا المغلوب على أمره، الذي أعياه الإتيان بتلك الأسباب سبيلاً على مر الحقب التاريخية والمنعطفات السياسية ولا يزال!!
{ وفي منحى آخر، فإن الوزير المقال قد يحاول العودة إلى بريق السلطة والجاه، التي أصبحنا نظن – وبعض الظن إثم – أنها قد لا تكون كلها لله وإنما لشركاء متشاكسين.. قد يحاول العودة بممارسة ظاهرة الانضمام والانسلاخ، أو حتى التمرد متمثلاً مقولة (طلع بالباب ورجع بالشباك)، وما أكثر الشبابيك هذه الأيام وما أقل الأبواب!
{ ومن الناحية الأخرى، نجد الفئة التي يتم نقلها من وزارة إلى أخرى.. وهؤلاء يدركون أن هذا الأمر هو إنذار لهم بتحسين أدائهم أو (كرت أصفر)، وغالباً ما تتجاذبهم مشاعر الفرح بالبقاء، ومشاعر الخوف والتوجس من المرحلة القادمة التي تتطلب جهداً مضاعفاً لإقناع القيادة ببقائهم لاحقاً.. وهذا الأمر يشكل ضغطاً نفسياً كبيراً، ويقوي لديهم روح الشك والتوجس والريبة في نوايا الآخرين.. وغالباً ما يعمدون إلى محاولة تجويد الأداء والكمال فيه بصورة أقرب إلى الحالة الوسواسية، ومحاولة عمل كل شيء تحت إشرافهم المباشر مما يعقد العمل ويحجم الآخرين في الوزارة المعنية في أداء عملهم.. ويكون القلق ملازماً لهؤلاء مع صعوبات في النوم والأكل بما يمكن أن نسميه (ثمن السلطة).. و(الغالي بغلاوتو بيضوقك وزارتو)!!
{ ومن اللطيف في خبر هذه المجموعة أن بعضها قد يستقوي ببعض القوى الخارقة، والاستعانة بـ (الفقرا) و(الفكي) واستعمال المعينات اللوجستية لذلك.. بدءاً من الأوراق والأختام والطبلة، وانتهاء بالدجاج و(الكدايس)، كما يتم نحر وذبح العديد من الكرامات التي لا ينال الله لحومها ولا دماءها، كما لا يناله تقوى هؤلاء!!
{ وإذا نظرنا إلى القادمين الجدد، فهم يكونون بين وقع المفاجأة والفرح بالمنصب، وهنا تنبع أهمية الثقة بالنفس وإقناع الآخرين، والقدرة على حل المشاكل والإبداع في المنصب الجديد.. ومن ناحيتهم يبدأون في فرض الشخصية أو (الاستايل) الخاص بهم وابتكار أشياء جديدة لإشعار الآخرين بوجود تغيير في السياسات.. وهذا يفسر كثرة وتقلب وتغير السياسات في هذا البلد.. وغالباً ما يعمد القادمون الجدد إلى روح الموادعة والمهادنة وعدم الدخول في صدامات، خاصة مع الصحافة والإعلام ونقابات العاملين.. وذلك حتى يستتب لهم الوضع ويدرسوا خطة العمل الخاصة بهم.. وهنا يجب التنبيه إلى تلك المجموعة من العاملين بالوزارت التي بمجرد قدوم الوافد الجديد يقومون بحرق البخور و(تكسير الثلج) له، وهنا تبرز شخصية الوزير الجديد، فإذا كانت قوية ومتوازنة فإنه سيتجنب هذه الفئة ويعمد إلى تحجيمها وفرض المؤسسية داخل الوزارة.. أما إذا كان من نوع (السماعون للكذب والآكلون للسحت) وذا شخصية هشة ويسهل الإيحاء لها، فإنه سينقاد لهم ويجعلهم بطانته.. وفي هذه الحالة فإنه سيغرق نفسه بصعوبات إدارية ومالية ومحاسبية تجعل مصيره واستمراره في الوزارة في مهب الريح، وغالباً ما يلحق (أمات طه) بسبب تلك الساسات الرعناء.
{ أما عن الباقين الذين لا يشملهم التغيير أو التبديل، فيكون شعار هؤلاء (غيب وتعال تلقانا نحن يانا نحن)، وهذه الفئة تكون مطمئنة ووادعة، ولا تنتابها أي مخاوف لعلمها علم اليقين (أنهم باقون).. وهذه تضعف لديها الهمة النفسية والرغبة في التحدي والابتكار ومحاولة صنع الفارق، كما تصيب الآخرين بالملل والضجر، وتغذي روح الكمون وتقعد بالوزارت عن التطور، مما يقلل الإنتاجية بصورة عامة.. وعموماً فإن هؤلاء الديناصورات غالباً ما يكونون السبب في الإطاحة بالأنظمة كما رأينا في مصر وتونس وليبيا.. وهذا الشعور بالملل والجمود النفسي والإحباط وحالة الاحتقان والرغبة في التغيير هي نفسها وميض النار:
أرى تحت الرماد وميض نار
وأخشى أن يكون لها ضرام
{ ولا ينقضي الحديث إلا بذكر الشعب الذي (ما عاد قادر ينتظر)، فهو ما بين التوتر والقلق والإرهاصات والتخمينات يعيش حالة من عدم اليقين وفقدان الثقة، ومحاولة بناء الآمال والتمني بانصلاح الحال، ويكون رد الفعل حسب هذه الأمنيات.
{ وهذا الجو مناسب لبث الشائعات لسهولة التصديق في ظل غياب المدد الإعلامي الرسمي، والتكتم، وتغير المواقف للكثيرين بين ليلة وضحاها، مما يجعل الشعب مهيأ نفسياً لتصديق أي شي ومن أي شخص!!
أ.د. علي بلدو:صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]