مقالات متنوعة

تطور طبيعي

تطور طبيعي
بدأ المرض ينتشر ببطء بين المواطنين ، ثم أزداد شراسة وإنتشارا مع مرور الأيام …
في البداية كانت الحكومة تسمح لنا بالكلام عن أي شئ نريد .. وكنا نتكلم عن أي شئ نريد .. والشئ الوحيد الذي كنا نريد الكلام عنه هو الحكومة … تكلمنا عن الفساد فأعلنت الحكومة حظر الكلام عن الفساد ، فسكتنا .. تكلمنا عن الواسطة والمحسوبية والعطالة ، فقام مسئول معلنا أن من يتكلم عن هذه الأشياء خائن وإبن خائن ، فسكتنا عن السياسة ورحنا نتكلم همسا عن الزراعة والإقتصاد والرياضة ، فأعلنت الحكومة إن الكلام همسا ممنوع لأنه يعني التآمر ، وكل من وجدناه يتكلم همسا فهو خائن وإبن خائن ، فسكتنا …. وشيئا فشيئا بدأنا نخرس وننسى الكلام ونكتفي فقط بالنظرات .. نظرات سياسية وأخرى رياضية ، فقام مسئول آخر وحرم النظر ، فخرجنا ذات يوم ونحن مطأطئ الرؤوس بوقار خشية الوقوع في جريمة النظر … وشيئا فشيئا فقدنا حاسة البصر ، وصرنا مجتمع من العميان والخرس … والغريب إن هذا المرض لم يصب أي مسئول أو منتفع من التقرب لمسئول ، لقد ظلوا محتفظين ويتكلمون ، ومع ذلك فقد حمدنا الله وشكرناهم لأنهم تركوا لنا نعمة السمع لنطرب بأصواتهم .. وقام فينا إمام المسجد يخطب :
– كل ما حدث لكم إنما حدث بسببكم .. لقد إنتشرت بينكم الفاحشة والفساد فسلط الله عليكم غضبه
لذلك يا سادة أنزلناه من منبره وأوسعناه ضربا .. لماذا لاتزال تبصر وتتكلم يا أخي ؟ … وتمر الأيام ونحن نعيش في بلاد الخرس والعميان .. خرجنا يوما نمشي في الشارع ، فلم يعجب أحد المسئولين بطريقة مشينا ، فأعلن إنه من الأفضل لنا ان نمشي على أربع أقدام ، لأن رفع الرأس دليل تكبر وبجاحة فسمعنا وأطعنا ، ولم يمض زمن طويل حتى نبتت لنا زيول … وحين إرتفعت الأسعار ولم نعد نجد ما نأكله أفتى مسئول بإن أكل لحم البشر في وقت الشدة حلال ، فقلنا في أنفسنا إنه طالما حرموا علينا أكل لحوم الناس بألستنا فالنمضغه بأسناننا ، وبدأ الناس يذبحون أبناءهم ويأكلونهم .. وحين أنهكني الجوع اشرت لزوجتي إنني سأذبح إبني الصغير لنأكله .. كان لا يزال يحبو ، أي إنه من الجيل الذي لن يسير على قدميه وسيظل للأبد على أربع .. أشارت لي زوجتي أن أذبح الإبن الكبيرفأشرت لها بإنني أدخره لعيد الأضحى .. وشيئا فشيئا فقدنا آدميتنا ونبت لنا صوف وقرون .. وفي جلسة طارئة للبرلمان ، قام أحد النواب وقال :
– يا سادة .. لقد صار المواطنون خرافا .. ماذا نحن فاعلين بهم ؟
– فقام آخر يمسك بمسبحة وحمد الله وقال :
– نفعل بهم كما نفعل بالخراف .. نصدرهم
وهكذا وجدت نفسي ذات يوم وسط كمية من البشر الخراف والخراف الحقيقية ، على ظهر سفينة تمخر بنا عباب البحر نحو الاراضي المقدسة ، فقلت لنفسي بلغة الإشارة :
– اخيرا سأرى الأراضي المقدسة .. لا بل سيسيلخ جلدي هناك بإذن الله
وباعونا هناك خرافا للحجيج ، فأشتراني مواطنا مغتربا من بلادي نفسها وذهب بي لبيته .. كان لا يزال يتمتع بنعمة البصر والكلام والوقوف .. جاء بي لأبنائه وأخذوا يلعبون حولي ويعبثون بي ، فتذكرت أبنائي الذين ذبحتهم وأكلتهم وبنائي الذين تركتهم هناك في بلاد العميان والخرس للمجهول ، وسالت دموعي فنظر لي صاحب البيت ، ثم صاح بزوجته :
– يا رب العالمين .. هذا المسكين ليس خروفا ، إنه إنسان مثلنا
وركع جواري وفك الحبل من عنقي وهو يبكي ويقول :
– ماذا فعلوا بالوطن في غيابنا ؟ .. أخبرني ماذا فعلوا ؟
كنت قد نسيت الكلام والمشاعر ، ولكني جمعت كل طاقتي وأخرجت كلمة واحدة من أعماقي في شكل ثغاء خروف بائس :
– بااااااااع

د.حامد موسى بشير