مقالات متنوعة
شاهد قبر

هذا ما ظللت أردده لنفسي طوال سنوات غربتي في تلك البلاد الباردة …. ظللت أردده وأنا في بلادي احمل شهاداتي وأحوم بها بين المصالح والشركات ولا أتلقى غير السخرية بسبب تخصصي في الفنون الجميلة .. ظللت أردده وانا أكتب لافتات ضد الحكومة مجانا للشباب الذين يتظاهرون ضد إرتفاع المعيشة .. ظللت أردده وأنا أغادر البلاد بزورق غرق بنا في عرض البحر ومات من كان معي ولم يتبقى سواي بلا مال أو أوراق في تلك البلاد .. وهناك في قرية صغيرة هادئة في ضواحي الضواحي سكنت وأصبحت كاتبا لشواهد القبور … وذات يوم نادى أحدهم إنه تم العثور على العجوز الغريب الذي يسكن خارج القرية مقتولا.. كانت القرية هادئة ونادرة الحوادث لذلك كانت الجريمة غريبة عليهم … كان العجوز الغريب يسكن في كوخ خارج القرية وله ولدين يعيشان معه .. يقول الناس إن الولدين تشاجرا وقتلا والدهما وسرقا أمواله التي يخبئها في الأرض ثم هربا .. وحين ذهبت لرؤية الجثة وجدتها في حالة مزرية .. لقد طعنوه حتى مات ثم قطعوا الجثة من وسطها وكان هناك حرق في خصره.. أطراف الجثة كانت هزيلة وناحلة وبارزة العظام ووسطها كان منتفخا … جاؤا بالجثة للطبيب الشرعي فشرحها وكتب تقريره ثم تقرر دفنها .. في لحظة الدفن تجمع اهل القرية لوداع ذلك العجوز الذي لا يعرفون حتى إسمه ، وقال لي الضابط أن أكتب شاهدا للقبر ، فسألته :
– وماذا أكتب في مكان الإسم
قال لي :
– أكتب قبر المجهول ، فهو ليس من بلادنا ولا نعرف من أين أتى ..
وأمسكت بإزميلي لأنحت الشاهد ، حين طاف بذهني خاطر جعلني أراجع الموقف .. قتله أبناءه وسرقوا ثروته .. قطعوا الجثة لنصفين .. الأطراف هزيلة والوسط منتفخ .. ونفضت ذلك الخاطر عن ذهني وأنا أردد في أعماقي : بلادي وإن جارت على عزيزة وأهلي وإن ضنوا على كرام .. وبيد ثابتة كتبت الشاهد .. هنا يرقد مجهول بلا إسم أو وطن .. وغادرت المقبرة كاتما أفكاري… ولكن في تلك الليلة هبت الريح وهطلت الأمطار ليغمر الطين الشاهد ولا يتبقى سوى ثلاث كلمات تمنيت ألا أكتبها أو افكر فيها ..
هنا يرقد … وطن
د.حامد موسى بشير