مقالات متنوعة

بحث ميداني

بحث ميداني
في سنة التخرج قررت أن أجري بحثي عن الدلالات النفسية للكتابات التي أجدها في الزجاج الخلفي للسيارت…. بعض هذه الكتابات واضحة وضوح الشمس ، ولا تحتاج لدراسة خلفية ونفسيات كاتبها ، مثلا عندما تجد أحدهم وقد كتب ( في الليلة ديك ) ، لا داعي للأسئلة ( التعسفية ) عن سبب معاناة هذا المسكين ، ولكن ما هي الخلفية النفسية لمن يكتب جملة مثل ( زي ما تجي تجي ) ؟… في مدينتي وكل ومدن السودان بإستثناء الخرطوم ، تم ترخيص سيارات ( الأتوز) الصغيرة لتعمل كتاكسي داخلي وأحيانا كسفريات بين المدن .. معظم سائقيها شباب ، لذلك إخترت هذه الفئة كعينة لبحثي … جاري واحد منهم ، يمتلك أتوز إشتراها بالتقسيط ، طرحت عليه موضوع البحث فتحمس قائلا :
– يا زول فكرة رهيبة والله ، تصدق انا ذاتي فكرت فيها لما كنت بقرأ علم نفس
بلعت ريقي متشائما وسألته :
– إنت قريت علم نفس ؟
– طبعا .. وكنت أول دفعتي كمان
طنطنت بما معناه ( الله يطمنك ) ، في حين واصل هو :
– وأقول ليك حاجة .. الشباب العندهم أتوز ديل أنا بعرفهم كلهم .. إنت سجل الكتابة وأنا بحكي ليك قصة أي واحد فيهم
وافقت فورا وركبت جواره وبدأنا رحلة جمع العينات .. أول واحد قابلناه كان مكتوب على سيارته ( عضة أسد ولا نظرة حسد ) ، قال لي جاري طارق :
– ده موسى .. عمل أربعة حادث بأربعة أتوز جديدة وفاكر إنو الناس حاسدينو
العربة التالية كان مكتوب فيها ( شيلة عروس ) ، نظرت لطارق متسائلا فضحك قائلا :
– ههههههههههه ده محمود الأتوز دي جابوها شيلة أختو وأدوها ليهو
– أختو جابو ليها شيلة أتوز كاملة ؟
– ده الحصل والله .. الله يلعن أبو التبذير
سجلت البيانات ، ونظرت للعربة التالية حيث كتب ( راجي الدولار ينزل ) ، فشرح لي طارق :
– ده الماحي .. قال عايز يعرس ويحجج أمو وابوه… حاليا ليهو تمنية سنة ولسه منتظر الدولار ينزل
التالية مكتوب فيها ( في الليلة ديك ) فقال لي طارق :
– ده إبراهيم و ….
– مفهوم ، مفهوم يا طارق ما محتاجة شرح
عربة أتوز مزخرفة مكتوب عليها ( يخلق من الشبه توريدة) ، نظرت لطارق متسائلا فقال لي ببساطة :
– توريدة الاتوز أربعين جنيه السنة الفاتت قبل زيادة الأسعار
العربة التالية ( أسد أفريقيا والعرب ) ، فسألت طارق :
– طبعا قاصد الرئيس
– هههههههههههه لا والله ده قاصد الهلال
العربة التالية كان مكتوب فيها ( أبو الدكاترة ) فقلت لطارق :
– طبعا دي بتاعة واحد عندو ولدين في طب وبت في صيدلة ؟
أطلق ضحكة ساخرة وقال :
– دي بتاعة عمك عيسى ، الدكاترة قطعو ليهو رجلو عشان عندو سكري .. دي شتيمة بمعنى ( يلعن أبو الدكاترة )
– شكرا للتوضيح
وتستمر الرحلة وتختلط الكتابات في ذهني وأنا أنظر شاردا عبر الزجاج حيث تتعاقب سيارات الأتوز .. ( شقيك يا دنيا ) .. ( مجبور ) .. ( وضاحة ) .. ( بكرة يا قلبي الحزين تلقى السعادة ) .. كلهم شباب كما قال لي طارق وأكثرهم يحملون شهادات جامعية ، ولكنهم لم يجدوا وظيفة تناسب مؤهلاتهم ف( ركبوا الخط ) .. كلها تتحدث عن أحلام لم تتحقق وآمال وطاقات جبارة يمكن أن تدير هذا البلد ولكنها محبوسة خلف ( الدريكسون )… نزلت من الاتوز ومنحت طارق أجره وأنا أتساءل عن السبب وراء كل هذه المعاناة ؟ .. وحانت مني نظرة لخلفية سيارة طارق فلمحت للمرة الاولى ما كتبه في الزجاج :
( كلو من الحكومة )

د.حامد موسى بشير