عكد الله المقابلة الجنة” قرية تغلق محالها التجارية.. وتعطل المصالح الشخصية مع رفع الأذان
ومن تلك المناطق التي أدهشتني وهزني تكوينها الإنساني والاجتماعي وتماسك مجتمعها بالفضائل.. وسماحة الأخلاق والانحياز التام لأفعال الخير بكل أنواعه بل والحض عليه.. منطقة العكد التي يطلق عليها أهلها وما جاورهم من مناطق “عكد الله المقابلة الجنة”.
تنام تلك القرية على ضفاف النيل، مما أكسبها وضعاً جغرافياً مميزاً وأكسب إنسانها صفات السمو والسخاء والعطاء، كما إنها تقع ما بين عطبرة والدامر.
وينتمي أهل (العكد) إلى قبيلة الجعليين، وهم شديدو الاعتداد بأنفسهم، ولهم إقدام وإباء وشهامة، سباقون في مواقع البذل والعطاء دون رياء ولا نفاق، فقد جبلوا على ذلك عبر التاريخ الموروث.
ولأهل العكد ارتباط وثيق بالمساجد وإنشائها وتأهيلها في كل بقعة يقطنون فيها، ولهم في ذلك شهادات إبراء ذمة، والدليل على ذلك ما إن رفع الأذان في قرية “العكد” إلا وتعطلت كل المصالح الشخصية، حيث تغلق الأندية والمحال التجارية وتتوقف حركة البيع والشراء ويتجه كل أهل القرية رجالا ونساء لأداء الصلاة، وهذا المنهج لا يوجد إلا في الأراضي المقدسة.. لذلك فأهل تلك المنطقة يعيشون حالة تصالح وتصاف مع النفس، وللمنطقة نظام قديم متبع منذ العام 1907م، ظل باقياً حتى يومنا هذا..
وهو نظام “التكيبات”، والتكيب يعني (خشم البيت)، وللعكد عشرة (تكيبات) أي خشوم بيوت، تجتمع شهرياً لمناقشة قضايا المنطقة الكبيرة والصغيرة في تأهيل المساجد والمدارس والخلاوي، ودعم الأسر الفقيرة، وغيرها من المشاكل التي تحتاج إلى علاج. وتعتبر لجان (التكيبات) هي المنبر الرسمي باسم القرية وإدارة شؤونها ولذلك ظلت العكد المنطقة الوحيدة في نهر النيل الأكثر ازدهاراً وتطوراً ونموا بفضل أولادها الذين يعملون على علو شأنها وتعظيم مكانتها وغرس تلك الروح الوثابة في نفوس الأجيال المتلاحقة من خلال القدوة الحسنة.
وفي العكد شخصيات بارزة ذات أثر بائن في النهضة الاقتصادية والدينية والاجتماعية في السودان، من خلال عطائهم الثر الممتد دون انقطاع كجريان نهر النيل، بل عرفت تلك الشخصيات بالورع والزهد والتواضع، تعمل على فعل الخيرات ولا تبتغي شيئاً غير وجه الحق تعالى.
ومن بين هؤلاء شخصيات ظلت تمثل نموذجاً للإنسان الاستثنائي المعطاء بلا حدود أبرزهم كمال إبراهيم أحمد الذي لم ألتقه في حياتي ولكن عطر سيرته النفاذ ظل يسبقه بل ملأ جنبات الأرض فهو كما حدثني عنه رفقاء دربي وإخواني في الشدة منذ الثمانينيات حسن إسماعيل وعاصم إبراهيم والسر أحمد فضل السيد وعثمان عباس ابن العكد، وهم من صفوته المقربة، أن كمال رجل قد تعقر بعده الأرحام إن لم تكن قد عقرت، سلوكه مستمد من الخلق الإسلامي الرفيع وأخلاقه الرفيعة، وإسراعه في فعل الخيرات في سخاء اليمين الذي لا تعلمه الشمال بجانب الدور الاقتصادي والاجتماعي والإنساني الذي تلعبه مؤسساته في نهضة هذا الوطن وفتح الوظائف لأبناء السودان دعماً لأسرهم حتى تتمكن من العيش في عزة وأمان. لقد شكل كمال إبراهيم أحمد منارة سامقة وإضاءة بارزة في حياة بلده وإنسانها وآخرين لا نعلمهم. نسأل الله أن تكون خيراته في ميزان حسناته.
وقد جمعتني شخصياً صلات السكن والجيرة مع عدد كبير من أبناء العكد الذين يتمركزون في حي الدروشاب شمال، فكانوا نعم الجيران لنا ولكل أهل المنطقة في التواصل والتعاضد والتسابق على فعل الخيرات وتنظيم حلقات التلاوة وتأهيل المساجد والمدارس ولذلك يجدون تقديراً خاصاً من أهل المنطقة خاصة أن نفرا عزيزا من أبناء العكد قاتلوا قتالاً مريراً من أجل تحويل مكان فاسد إلى مسجد تمارس فيه الشعائر والصلوات وتحفيظ القرآن بل تحول هذا المسجد بالدروشاب إلى منارة إسلامية يرتادها الناس وكان ذلك على نفقة العم عبد الله العوض سالم الذي ينتمي إلى العكد وسقادي غرب ومن الشخصيات التي جاورتنا وتحظى باحترام الجميع العم الزبير الذي يلقب بـ (الباشا) وأسرته الكريمة فهو شهم وشيخ عرب وكذلك الأخ الكريم عبد الله علي عمر رئيس لجنة المساجد كما إنهم درجوا منذ أن عرفناهم عبر السنوات الطويلة على تنظيم حلقات التلاوة (أحد وأربعاء) من كل أسبوع يتناوب فيها الأعضاء حيث يتم فيها تحفيظ القرآن وتعليم أصول التجويد والفقه بقيادة الشيخ بشير الجيلي.
قصدت تقديم نموذج لقرية جعل الله حياتها القرآن.. والخيرات والارتباط بكل ما هو يرتقي بالإنسان وما ذكرته من أمثلة لبعض الأسماء ليس تقليلا من شأن الآخرين ولكن من باب الجواب يكفيك عنوانه.. هكذا عكد الله المقابلة الجنة أتمنى أن تكون نموذجاً لبقية المناطق يحتذى به.
صحيفة اليوم التالي
عوض محمد أحمد
ع.ش