“تسول”أكاديمي.. شرافة و”استجداء”: أطفال في لجة الضياع
على مقربة من موقف مواصلات شروني الجديد وعلى طريق الإسفلت الموصل إلى كلية الطب من الموقف باتجاهه الشمالي، طفل ربما لم يبلغ الـ(3) سنوات؛ أحكمت على رأسه طاقية بيضاء يرتدي جلبابالونه سمني أمامه “صحن” موضوع بإحكام تتناثر بعض النقود بداخله، لا يحسن الكلام حتى- من فرط صغر سنه وقلة تجربته- لكن إتقانه لعمله مختلف،يتمتم بسورة الفاتحة التي يعجز عن إكمالها، “ثمة (ريموت كنترول) بشري وراءالطفل خاصة وأن طفلا في هذا العمر لا يقوى على المجيء إلى هنا لوحده والعودة من حيث أتى”،هذا ما قاله لي أحد شباب الجامعة على ما يبدو من الدفتر الذي يحمله في يده ذات صباح يوم خرطومي مرتفعة فيه درجة الحرارة،حاره أمر هذ الطفل الذي يجيد صنعته حد الدهشة.
أما الطفلتان اللتان لم تبلغا العشر سنوات،فعلى درجة من الإلحاح لمن يستجدينه بـ”التسول”، إنهما تغطيان رأسيهمابخمار يتدلىإلى نصفالجسد، يتكلمن عربية دارجة مكسرة وبسيطة ولكن مفهومةلمن يتحدث معهما، سألت أحداهما عن سكنهما، فأجابت: “منطقة(…) الخرطوم”،أردفت بسؤال عن الموطن الأصل فأجابتبأنهما قدمتاإلى السودان مع أخرياتمع ذويهنعبر حدود البر من دول أفريقية، وعن المحصلة..قالت (ينتظرهما) في البيت عند قدومها في المساء ليأخذ المحصلة.. و.. وحينما أردت أن أستقصي أكثر فإذا بها أمسكت يد مرافقتها وطفقت تهرول مسرعة تتمتم بلهجة ولغة غير مفهومة.تركتني وفي ذهني سيل من التساؤلات والاستفهامات عن واقع أطفال وصغار يقف من ورائه كبار ينظمون لهم مهنة التسول في الوقت الذي ينهمك من في عمرهم في قاعات الدرس والتعلم وهم يكبرون مع الأيام في سؤال الناس واستجدائهم.
شرافة واستجداء
شكل آخر من أشكال تسول الأطفال في بعض مناطق السودان حيثتعمد بعض الخلاوي أو بعض الأسر إلى الدفع بالأطفال للتسول، بعد أن يُمنح الصغير لوح كتابة القرآن للتجول به في الأسواق والبيوت وعرض هذا اللوح المزيّنوالمكتوبة فيه آياتقرآنية يطلق عليها “الشرافة” ويجني بعد ذلك مالا من الذين عرض عليهم هذه الشرافة.
ربط مالي مقدر
واللافت للنظر؛ أن الأطفال المتسولين يصطحب بعضهم بعضا في الأسواق وفي تجمعات الناس وربما يكونون من أسرة واحدة أو من خلفهم جهة دفعت بهم ليجنوا لها مال التسول من خلال سقف و(ربط)،لا يحيد عنه الأطفال المتسولون، الذين يجتهدون أيما اجتهاد مستغلين كل ملكاتهم في (الشحدة) لإقناع المار والمسؤول ليلقيإليهم بعض المال في عملية التسول التي يحسنون صنعها.
تدريب بخبث
وأكثر المشاهد التي تنمّ على أن تسول الصغار يأخذ شكل الاحترافية فكأنما هناك مدرسة أكاديمية، تدرب هؤلاء الصغار على فنون التسول؛هاكم صورة هذه المشاهد التي تم رصدها من قبل (اليوم التالي): صبية بنات وأولاد لم تتجاوز أعمارهم الست سنوات من أين لهم معرفة إمساك أيدي المارة خصوصاً البناتإن لم يكن من ورائهم أناس يشرفون على تدريبهم ويقفون من ورائهم يلقنونهم هذه الأساليب!!.. هذا الأسلوب على الرغم من أنه طفح على السطح منذ سنوات إلا أنه ما زال مستمراً، ويأخذ مكانه بين أساليب التسول الكثيرة، والعجيب أن هؤلاء الصبية لا يكتفون بإمساك أيدي المارة لسؤالهم فحسب وإنما يتشبثون بالمارة ويتعلقون بهم والبعض الآخر من شدةإلحاحه يبكي حتى يظفر بمال (الشحدة).. ولكن أخبث الأساليب هي تلك التي يدرب عليها الصغار الذين يتمسكون بحقائب النساء أو يتشبثون بهن بعد أن عُلّموا أن المرأة أكثر حياءً فهي بذلك تدفع للصبي المتسول ما عندها من نقود حتى تخرج من هذا المأزق وهذا ما يوضح أن معلمي الصغار التسول يدربونهم على أساليب ماكرة وخبيثة في فن التسول.
تسول عبر الحدود
الخبيرة في مجال الطفولة والأمين السابق لمجلس رعاية الطفولة الأستاذةقمرهبانيفي حديثها لـ(اليوم التالي) شخصت المشكلة وصيرورتها من كونها نابعةلظروف وأسباب عدة إلا أن السبب الرئيس لـ(تسول) الأطفالبحسب هباني هو “الفقر الذي يخلف وراءه حالة من العدم وشظف العيش والعوز لأبسط الضروريات ليكون الحل بسؤال الغير”؛ وتضيف “النزاعات المسلحة في بعض الولايات والمناطق تدفع الكثير من الأسر للنزوح والهجرة وتضطر في المجتمع الجديد- بسبب العدم- للتسول ويقع الطفل ضحية لهذا الواقع حيث يدفع لامتهان التسول”.
وتشير هباني إلى الهجرة الوافدة من دول أفريقية عبر الحدود مع دول الجوار سواء أكانت هذه الهجرة للحج ومن ثم البقاء في البلاد أو باستهداف السودان أساساً للإقامة -عبر الدخول غير الشرعي-والبحث عن حياة أفضل من التي في بلادهم، وحينما يفاجأون بالواقع حيث لا أحد يصرف عليهم ولا مصدر دخل وبالتالي لا حل سوى أنيتسولوا لسد حاجتهم.
وتقول “في المقابل يكن التسول لسد احتياجات بسيطة كتدبير مصروف الطعام(إفطار) أو علاج،أواقتناء أي من الضروريات”.
غوص في الأعماق
غصنا في أعماق الطفل المتسول؛ ما يحيط به،من يدفعه،وما يتوقع منه، كيف يعيش؟وكيف يفكر؟ وما هي إسقاطاته النفسية، مشاكله، تأثير التسول على نفسيته ومستقبله، كل ذلك وغيرهطرحناه على الاختصاصية النفسية بمعاهد التعليم البريطانية دكتورة شذى عبد الحليم التي تحدثت لـ(اليوم التالي) عن محاورنا حيثقسمت في حديثها الأطفال المتسولين إلى4 فئات:(فئة الأطفال المتشردين مجهولي الأبوين، فئة الأطفال الذين تدفع بهم أسر فقيرة للتكسب بفعلهم هذا، فئة الأطفال الذين ينشأون في أسر مفككة اجتماعياً،فئة الأطفال الذين تستغلهم عصابات وجماعات تسترزق من ورائهم بما فيها جماعات أجنبية وافدة).
إعداد خاص للمهمة
وعن ما يحدث للطفل قبل الدفع به في التسول تقول شذىإن بعض الأسر أو الجهاتتدرب الصغار وتجبرهم على التسول وفي سبيل ذلك حتى يكون معدا لهذه المهمة تخلق له عاهة كأن تفقأ عينه أو تعوق رجله أو.. أو.. وغيرها من الإعاقات النفسية والجسدية التي تواجه طفل التسولقبل امتهان هذا الضرب من ضروب استجداء الناس.. وغالباً ما تضع الأسر أو الأناس الذين من خلف الطفل المتسول الذين ينتفعون منه ليضعوا له شروطا قاسية حتى يتقن صنعته، إذ يخبرونهبماينتظرهمنمصيرحالعدممقدرتهعلى تحقيق (الربط) الإيرادي الذيمنالمفترضأنيقدمهللذينهممنورائهفيالتسولحيثيضربأويكوىبالنارأويحبسأويمنعالطعاملذلك يجتهد وينجح رغماً عنه في التسول.
وتؤكد محدثتنا أن تسول الأطفال سلبي بكل المقاييس ولا ينطوي على أي محمدة أو صفة إيجابية، وربما يكون من يدفع الطفل للتسول يعاني من عقد نفسية يريد أن ينتقم من الطفل ويظهر ذلك في بعضالحالات حينما تدفع زوجة الأب أو زوج الأمبالطفل في أتون التسول.
تشوهات خطيرة
التشوهات النفسية التي تلازم طفل التسول عند شذى:أن الطفل في فترة مبكرة من عمره أصبح متسولاً وفقد بذلك محضناً تربوياً وإن كانت له أسرة فإنهيدخل ضمن فئة (التشرد الجزئي)، فبدل الالتحاق بمدرسة فإنه يهيم فيالطرقات والأسواق تحت ضغط رهيب خوفاً من الذين دفعوه للتسول وبذلك يمكن أن ينحرف أو يستغل من عصابات الإجرام في أي عمل كبيع مخدرات، متاجرة، سرقة،جنس… الخ وأخطر أنواع الاعتلالات النفسية التي يجابه بها طفل (الشحدة) هي الحالة النفسية السيئة التي يعيش فيها الطفل المتسول ونظرة المجتمع إليهبجانب ما يشكله له رؤية أقرانه الأطفال في المدارس ومع ذويهم في المنتزهات وعلى متن السيارات وهو أسير الحر والهجير والظروف يستجدي الناس، هذاالوضع يخلف لديه غبنا وحنقا على المجتمع بعامة وعلى الأطفال بخاصة.
تشريعات استباقية
التكييف القانوني لمسألة تسول الأطفال بحسب القانوني حذيفة صلاحالذي أكد لـ(ليوم التالي)، أن النفقة واجبة على الوالدين وفي حالة عدم وجودهما بالوفاةأو العجز فذوو الطفل من جهة الأب أو الأم والأقرب فالأقرب، فإن لم يكن له ولي فوليه الدولة حيث يقع على عاتقهارعايته والإنفاق عليه حتى يصل سن التكليف لذلك تبقىظاهرة التسول للقصر مخالفة قانونية صريحة بنص (قانون الطفل لسنة 2010م) الذي أورد في الفصل التاسعالمادة 46حظراستخدامالأطفالفيأعمالالسخرة. حذيفة لفت إلى أن التعامل في القوانين مع قضايا الأطفال يقع ضمن التدابير الاحترازية بمعنى لا تتدخل السلطات في شأن الطفل إلا بعد أن يرتكب جريمة أو ترتكب ضده جريمة مطالباً المشرع بتضمين تشريعات استباقيةتحمي الأطفال من التشرد والتسول وتحاسب كل من فرط ودفع بهم في هذا السلوك المضر وتفعيل القانون خاصة مادة (سخرة) الأطفال.
اهتزاز مجتمع بأسره
وينظر الدين الإسلامي لتسول الصغار بأنه خلل تربوي يتضرر منه الأطفال والمجتمع على السواء وفي الصدد يقول أستاذ الدراسات الإسلامية الجامعيد. محمد حسن، إن الشريعة الإسلامية ركزت على الكسب المشروع والكسب من عرق اليد وتربية أفراد الأسرة على ذلك وإذا فقدت الشخصية هذا المبدأ اهتزت الشخصية وإذا اهتزت الشخصية اهتز المجتمع بأسره، فإذا كان الفرد يمد يده للناس بدلاً من أن يعمل ويسأل الإعانة فهو لا محالة خاسر لأن الرسولعليه السلام قال”اليد العليا خير من اليد السفلى”. ويمضي محمد بالقول: أن الله تعالى أوجب على رب الأسرة السعي والابتغاء من فضل الله لقوله تعالى (وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وهذا ليس معناه أن التسول محرم مطلقاً ولكن يجوز للسائل أن يسأل بقدر حاجتهوأن يكون من أصحاب الأعذارومع هذا العفة مطلوبة وعلى المسؤول أن لايرد السائل بحجة أنه قادر (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ).
حزمة حلول
دكتورة شذى؛ وضعت في خاتمة الاستقصاء حلولا لتسول الأطفال من خلال تصدي الجهات المعنية وزارة الرعاية الاجتماعية، ديوان الزكاة، منظمات المجتمع المدني، مؤسسات رعاية الطفولة في عمل دراسات بحثية للوقوف على الظاهرة مسبباتها، تداعياتها، ووضع الحلول الناجعة؛ التي بالطبع منها مشروعاتالدخل التي تعين الأسر والأطفال على الاعتماد على أنفسهم بجانب إلحاق هؤلاء الأطفال بالعملية التعليمية على وجه السرعة.
صحيفة اليوم التالي
[/JUSTIFY]