مقالات متنوعة
تأملات أمام شباك الرغيف …
لابد إن الشياطين قد ذهبوا الآن في رحلتهم الإجبارية مكبلين بالأغلال … الجو في الخارج عاصف وممطر والبرد يتسلل عبر المسام ليخترق العظام ، ويجعل الأسنان تصطك … نحن في منتصف يوليو ، ولكن خريف هذه المدينة لا يعترف بهذه الحقيقة الزمنية … في ميز العزابة الذي نسكن فيه مع مجموعة من الأطباء ، نجحنا بعون الله في صناعة ( حلة ) محترمة للعشاء … نصفها محترق ونصفها الآخر متجمد ، ولكننا كنا سعداء … أطباء يفتحون البطون ويجذبون الأجنة من غياهب الأرحام ، يقفون كالتلميذ ببلادة أمام حلة الملاح …. وفجأة نكتشف أننا كعادة السودانيين قد نسينا أهم عنصر في كل هذه المسرحية … الرغيف … وتلقائيا إلتفتت كل الأعين نحو الشخص الأصغر والأنشط والأسرع والأحدث في هذا الميز … أنا طبعا … وفي الخارج سمعت صوت الريح والمطر تصفق بسعادة وتهتف بي أن أخرج لترحب بي … حاولت أن أتهرب ولكن الموضوع غير قابل للنقاش … معظمهم أخصائيين وأطباء كبار وأنا بشهادة الجميع أتميز بالسرعة … منذ أيام الجامعة و الزملاء يقولون لبعضهم :
– لو المحاضرة بدت ، أعمل لي مسكول ، أو للضمان رسل حامد
لهذ خرجت … الفرن بعيد ، ولا توجد مواصلات أو ركشة والشوارع خالية … السماء مدلهمة وشديدة السواد والريح تصفر بين أوراق الأشجار ، وأنا أجري وأجري بين حبات رزاز المطر … من بعيد يتألق البرق في نهاية الشارع فتنكشف السيارات الخالية أمام البيوت والشارع الطويل الذي على عبوره ، ثم يدوى صوت الرعد بكل جبروته ليهز كل ما لم يهزه البرد بعد …. ومن بعيد أرى الفرن … أراه لأن هناك مظاهرة كاملة من البشر الذين تذكروا أن غدا رمضان وأنه لا يوجد رغيف في بيوتهم … يتصارعون ويعلوا الصراخ وتتلاحم الأجساد وتتدافع … من أجل الرغيف ، ومن أجل الإقتراب أكثر من الدفء عند شباك الفرن … لذلك أخذت نفسا طويلا وغطست في بحر الناس … يدفعوني وأنا أدفعهم ، يغوص كوعي في بطن أحدهم وتغوص عشرة أكواع أخرى في بطني ، حتى وصلت الشباك … بائع الرغيف كان يقف سعيدا بكل هذه الوجوه التي يتحكم فيها ، أما أنا فشعرت بدفأ نار الفرن في وجهي بينما ظهري يلسعه الرزاز … يقول البائع إن الرغيفة الواحدة بخمسين قرشا ، فيهتفون : بع لنا … يقول إن الرغيف صغير الحجم .. فيهتفون : بع لنا عليك اللعنة … لو قال لهم إن الرغيف به بروميد البوتاسيوم وسم الفيران لقالوا له بع لنا … كنت أريد أن أتفلسف وأشبه هذه الحالة بحالة البلد وما يجري فيها ، ولكن هذه التشبيهات صارت مملة ، لأن الوضع صار أسوأ من هذا بكثير … وراءهم أطفال تركوهم في البيت جياع ، وغدا يوم طويل من الصيام ولا وقت لديهم للفلسفة ، بع لنا وليكن ما يكون … لذلك أحمل رغيفي وأغادر الشباك ، وتغوص كوعي في بطن أحدهم وتغوص عشرة أكواع أخرى مرة أخرى في بطني ، وجسد يدفعني نحو آخر حتى أجد نفسي في الشارع من جديد … وألتفت للجيش الذي تركته من خلفي في تلاحمه الأبدي أمام شباك الرغيف … من فعل بك هذا يا محمد أحمد ؟ ولماذا تتلاحم بهذا الشكل هنا وتعجز ان تتلاحم لتهز أركان من فعل بك هذا ؟ هل هنت لهذه الدرجة … برووووووم يدوي صوت الرعد ليوقظني من تأملي ويعيدني لأرض الواقع المبتل برزاز المطر … لا وقت للفلسفة أنا أيضا لدي بطون جائعة في إنتظاري ، وغدا يوم طويل … رمضانكم كريم
الكاتب الساخر : د.حامد موسى بشير