انعكاسات حرب الجنوب على السودان ( 2-2 )
هناك مورد آخر لا يقل أهمية سيتأثر كثيراً بالحرب التي بدأ أوارها يتصاعد في الولايات المحادّة للسودان يتمثل في التجارة بعد أن أعلن السودان فتح الحدود التي كانت في السابق مغلقة جراء التوترات الأمنية وضلوع الجنوب في دعم الجبهة الثورية وقطاع الشمال تحديداً.. وقد عول السودان كذلك كثيراً على هذا المورد الذي يصب في مصلحة البلدين والشعبين.
الآن، خاصة إذا تصاعد لهيب الحرب، ستتحول هذه النعمة إلى نقمة وبدلاً من انتقال السلع والتجارة بين البلدين أخشى أن يتدفق اللاجئون بمئات الآلاف وربما بالملايين.. وأخطر من ذلك أن يدخل السلاح بكميات كبيرة سيما وأن ولاية أعالي النيل يمتد «لسانها» في العمق السوداني متداخلاً مع ولايات النيل الأزرق والنيل الأبيض وسنار.. إنها حدود تمتد لألفي كيلومتر فتخيلوا بربكم ما يحدث إذا اشتعل ذلك الحزام الممتد من ولاية النيل الأزرق حتى دارفور؟!
الجبهة الثورية ستكون أول المتضررين إذا تمكن سلفاكير من بسط سيطرته على الجنوب لكني أشك كثيراً في قدرته على ذلك.. بل أكاد أجزم على استحالته.. فالنوير لن يُهزموا بسهولة في ولاياتهم خاصة أعالي النيل والوحدة وجونقلي سيما بعد أن ضمنوا أو كادوا تحالف معظم القبائل الاستوائية معهم ضد القبيلة الكُبرى المهيمنة «الدينكا».
أذكّر فقط بواقعة تاريخية شبيهة.. جوزيف لاقو الذي ينتمي إلى قبيلة المادي وهي من القبائل الاستوائية الصغيرة.. هو من وقّع اتفاقية أديس أبابا مع نظام الرئيس نميري عام 1972 وقضت الاتفاقية بتوحيد الجنوب لكن ماذا حدث بعد ذلك؟!.. لاقو هو الذي أكتشف أن الجنوب توحد تحت هيمنة الدينكا الذين ضاقت بحكمهم كل القبائل الأخرى.. فما كان منه لإنهاء سيطرة الدينكا إلا أن طالب نميري بتعديل الاتفاقية بما يقسم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم وفعلها نميري وهاج الدينكا وماجوا وروجوا للكذبة أن نميري خرق الاتفاقية.. ولو لم يفعل نميري ما طلبه منه لاقو لاشتعل الجنوب في حرب أهلية مبكرة.. أقول ذلك بالرغم من أن الحروب القبلية لم تتوقف البتة في جنوب السودان لكن شتان بين حروب صغيرة وحرب أهلية شاملة كالتي نشهد نذر اندلاعها الآن.
إن الجبهة الثورية وقطاع الشمال تحديداً ربما تخوض الحرب لصالح تحالف مشار باقان لكنها في ذات الوقت ستفيد كثيراً من انفجار الأوضاع واتساع رقعة الحرب فأي اضطرابات أمنية في الشريط الحدودي تفيد منه الجبهة الثورية في زيادة وتيرة التوترات الأمنية في السودان واستنزاف موارد الدولة والذي يزيد بدوره من الاحتقان الشعبي ويُمهد الطريق لإنفاذ مشروعها الإستراتيجي الذي تناصرها عليه القوى اليسارية والعلمانية المنضوية في تحالف قوى الإجماع الوطني.
في هذه الأجواء الملتهبة فتش عن عدونا الإستراتيجي «إسرائيل» التي لن تتوانى أو تتردد في التدخل لتحقيق مآربها وأهدافها الإستراتيجية، ذلك أن إسرائيل ضالعة في أزمة دارفور كما أنها لم تغب عن المشهد الجنوبي منذ خمسينات القرن الماضي كما ثبت من اعترافات جوزيف لاقو قائد حركة أنانيا المتمردة، ومعلوم أن إسرائيل يهمها أمران إستراتيجيان هما الإضرار بمصر عدوها الإستراتيجي ثم السودان حتى يكون ضعيفاً عاجزاً عن لعب دور إيجابي في نصرة أمنه والتأثير على محيطه الإقليمي كما صرح بذلك وزير الأمن الإسرائيلي افي ديختر.
بالإضافة إلى إسرائيل فإن أهم الأطراف الإقليمية التي تخشى تداعيات ما يجري في جنوب السودان على أمنها القومي واقتصادها هي أوغندا التي لا تقل مخاوفها من حرب الجنوب عن مخاوف السودان.. فعلاوة على الآثار الاقتصادية التي يمكن أن تنجم عن إغلاق أسواق الجنوب في وجه التجارة الأوغندية.. فإن الآثار السياسية والأمنية قد تكون أفدح وأخطر نظراً للتداخل القبلي بين الجنوب وأوغندا خاصة قبيلة الأشولي التي ينتمي إليها جيش الرب الذي سيفيد كثيراً من الاضطرابات الأمنية في جنوب السودان للعودة مجدداً وبقوة إلى المشهد السياسي الأوغندي.
لا أظن ذلك يخفى على جهاز الأمن الوطني في السودان.. فقد ثبت أنه ما من دولة تكتفي بموقف المتفرج منتظرة أن تلعب الأقدار في مصلحتها وتهب الرياح في أشرعتها.. فكما ذكرنا فإنه حتى الحركات المتمردة ظلت ترقب التحولات التي تجري في دول الجوار وتسعى لإحداث التغيير الذي يحقق مصالحها كما رأينا من مواقف حركة العدل والمساواة في الصراع التشادي أو في أحداث الثورة الليبية ضد القذافي.
لقد كان السودان في بداية التسعينات فاعلاً في محيطه الإقليمي وقد كان له دور فاعل في إنهاء حكم منقستو في أثيوبيا وفي استقلال أرتريا وكذلك تغيير الأوضاع في تشاد ولا أدري ماذا دهانا حتى صرنا مسرحاً لتدخل الصغار ناهيك عن الكبار في شؤوننا؟!
السؤال الذي يؤرقني وكل الشعب السوداني.. كيف يعود السودان إلى سابق عهده.. وكيف يوظف ما يحدث في جنوب السودان لمصلحته بدلاً من ترك الأمر للآخرين ليزيدوا من أوجاعه ومعاناته في سعيهم الدؤوب لإعادة هيكلته وتغيير هويته.. بل والقضاء عليه بعد إغراقه في الحروب والتوترات الأمنية والسياسية.
لقد سرني أخبار الانتصارات التي حققتها قواتنا المسلحة مؤخراً في جنوب كردفان وأرجو أن تتواصل حتى تحرر كاودا ويُكسر ظهر الجبهة الثورية تجنباً لأي تطورات سالبة قد تحدث مستقبلاً في جنوب السودان .
صحيفة أخر لحظة
الطيب مصطفى
ت.إ[/JUSTIFY]