منوعات

حكاية المنزل “219” سفارة جوبا بالخرطوم .. جدلية المكان ومآلات الأحداث

[JUSTIFY]والنصيف لا يسقط.. الخرطوم أيضاً لا تريد ذلك، فبنت المقرن ما زالت تلف حولها (لاوي الدينكاوية)، ويلفها في مكان آخر ما تتوشحه حسناء النوير، إن غاب من ينطقون بها فما تزال لهجة عربي جوبا ترددها الأزقة والحواري والغرف المكيفة وتنطق بها الأسافير.. تأتيك أيضاً عبر الأثير والإذاعات، والشاشات لا تعرض سوى صورة الموت الساكن هناك.

جوبا تختار مكان حديثها.. الخرطوم تمارس (الصمت) وبعض الأحاديث، وإن كان الفعل المنتظر هو سلام لا تذهب (نيفاشاه) إلى نقطة الشعور بالذنب على ما حدث، هو صباح يبدو عادياً؛ موجة البرد بدت وكأنها متضامنة مع الحريق هناك، فذهبت أدراج الرياح الجنوبيّة بموتها.. شارع (الشهيد عبيد ختم) يعيدك لسنوات المواجهات بين شطري البلاد.. يمينه تقف مباني الخطوط الجوية السودانية بشعارها القديم.. الإشارات الخضراء لا تعني بالضرورة المرور للحصول على وظيفة بالقرب من المشتل في مبنى لجنة الاختيار القومية.

عابراً (الزلط)، مصطدماً بأنابيب النفط؛ تجد اللافتة المكتوب عليها (مطعم البيت المصري).. إلى اليسار ثمة لافتة مكتوب عليها (جبهة الدستور الإسلامي)، وهيئة لتنمية دول أفريقيا جنوب الصحراء.. خطوات وتجد نفسك عارياً أمام الحقيقة؛ الرياض شارع (10) منزل رقم (219)، المملوك للقيادي بونا ملوال، الذي تعلوه اللافتة المكتوب عليها (سفارة جمهورية جنوب السودان الخرطوم).

الراية المرفوعة والعربة التي تتبع لشرطة حماية البعثات الدبلوماسية تخبرك أننا صرنا دولتين بعلمين وعملتين وسفارتين.. لوهلة تظن أنّ أوان السفارات هو أوان ما بعد الحرب، ولكن تقابلك المعارك التي هربت منها بالاستفتاء باعتباره (الكي) آخر العلاج، ولكن يطاردك ذات الوباء؛ وباء أنّ تلك هي أفريقيا بكل آلامها.. ذاك هو السودان، وفي الضفة الأخرى من النهر جنوبه.

أنت الآن في قلب (العمارة) التي تستضيف (السفارة)، تواصل رحلة بحثك عن الأجنبي، فالموجودون هنا يستخدمون ذات العبارات؛ يسالمون بذات الطريقة، ويعرفون بعضهم البعض.. ربما جمعتهم قاعات الدرس في جامعات السودان القديم وملاعب كرة القدم ومقاهي السوق العربي وتوطد ما بينهم في سنوات الانتقال النيفاشية.. ربما هو الأمر الذي يفسر مسألة بحثك عن الأجنبي وانت تحمل الدعوة المقدمة إليك من سفارة إحدى الدول في قلب الخرطوم.

في المبنى المكون من طابقين تجمع عدد كبير من الإعلاميين في انتظار سماع القصة الرسمية القادمة من جوبا بلسان ممثلها في الخرطوم ورئيس بعثتها الدبلوماسية ميان دوت، ذات الرجل يعيدك إلى جدلية البحث عن الأجنبي فالرجل من (الوزارة الولائية إلى سفارة دولة السودان الجنوبية) وهو القائل إنه ما زال يحتفظ بملكية منزله في حي (الأزهري) الخرطومي ولم يتنازل عنه بعد. في سياق آخر كان الرجل قد أعلن ذات صباح مريخيته وما زال متمسكاً بلونه الأحمر، ليست المريخية وحدها فثمة حكايات أخرى يمكنك ملاحظتها؛ الصوت الخارج باللغة العربية في سفارة الجنوب يجعلك مواصلاً مسيرة البحث عن الأجنبي وأنت هناك، طريقة الجلوس وطريقة التقديم للمؤتمر الصحفي بدت على ذات الطريقة السودانية، يمكنك أن تعبر فوق كل ذلك لتقف في محطة أخرى هي محطة القضايا التي تمت مناقشتها في المؤتمر الصحفي.

الرواية الرسمية المؤتمر الذي دعت إليه سفارة دولة الجنوب في الخرطوم كان الغرض الرئيسي منه هو أن يتم عرض الرواية الرسمية والموقف مما حدث مؤخراً وهي الرواية التي جاءت عبر البيانات التي خرجت تباعاً، فالسفير بدا وكأنه مذيع في تلفزيون الدولة الرسمي حيث أعاد ما تكرر في الأيام السابقات منذ اندلاع الأزمة متناولاً مسبباتها وعابراً فوق جسر محاولة الوصول إلى حل نهائي للأزمة إلا عبر المضي في الجسر المرفوع منذ العام 1983 عبر مانفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان معتبراً أن ما يحدث ليس صراعاً قبلياً كما يصور بل هو اختلاف في وجهات النظر بين القيادة الشرعية والقيادات التي حاولت الانقلاب عليها، عابرا في نفق القبلية بالقبلية ذاتها حيث قال إن الـ11 فردا الموقوفين على ذمة المحاولة بينهم 5 ينتمون إلى قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها سلفاكير وفيها فقط 2 من النوير المحسوبين على مشار في وقت لم يعلن فيه رفض حكومته مفاوضة الانقلابيين وذلك لاتساع بؤرة النزاع، وأعلن الرجل أن جوبا الآن هادئة تماماً وأن الأمور ستعود إلى نصابها في القريب العاجل.

قبل أن يحزم الرجل أوراقه مغادراً ساحة المؤتمر الصحفي تناول قضية البترول قائلاً إن الإنتاج لن يتأثر وإن قوات الانقلابيين لا تسيطر على المنطقة بالكامل وإنما على العاصمة بانتيو بينما تضع الدولة يدها على بقية مساحات الولاية الغنية بالنفط.
بعيداً عن جدلية المكان (سفارة جوبا بالخرطوم)؛ ثمة نقاش يجب أن يدور حول ما يمكن أن تؤول إليه الأحداث مستقبلاً في الأراضي التي تدور حروبها بلا هوادة تتداخل فيها المواقف والمطلوبات وكل قوة عسكرية تحاول إجلاء منسوبيها؛ يوغندا وأمريكا وفي الطريق كينيا، إلا أن المدهش هو نفي السفير أن تكون الطائرات التي ضربت منطقة بور طائرات يوغندية وإنما هي طائرات تابعة لدولة الجنوب.. فبعيداً عن مباني السفارة والبراءة التي وضعها السفير لصالح الخرطوم البعيدة عما يحدث هناك يبقى السؤال الرئيس هو تحديد دور يتوافق مع ما تطلبه الخرطوم من جوبا شعبياً قبل أن يكون متخذا الصفة الرسمية.

صحيفة اليوم التالي
الزين عثمان
ع.ش[/JUSTIFY]