بعد أن :
نحنا في الدمعات غرقنا
غادرنا الديار متوجهين للاسكندرية وخريف (٨٨) يلفظ مطراته الأخيرة .. لم تكن هناك من المؤشرات ما توحي باحتمالية انبهال الأمور بي قفانا، جرّاء انحلاج مواسير السماء والتقاء مائها بماء الهضبة على أمر قد قدر، فبالرغم من النبؤات التي ترددت عن خريف استثنائي، إلا
أن رسوخ فهم (كذب ناس الإرصاد ولو صدقوا) في دواخلنا، حال دون تصديقنا لتلك النبؤات، وذلك لكثرة ما جهجهونا بـ هجم النمر مع مطلع الخريف في كل عام، ثم يمر الخريف مرور الكرام دون أن يهجم علينا مجرد كديس شكشاكة ..
ومع بداية العام الدراسي في جامعة الاسكندرية، بدأنا في تلقي أخبار تشفّق عن الطوفان الذي اجتاح ديار الأحباب، ومع صعوبة التواصل اليومي مع الأهل وقتها، لم يكن في ايدينا سوى مناجاة الطير في سماه بـ:
يا طير يا ماشي لي أهلّنا .. طمّنا ايه الحصل ليهم بعدنا ؟!!
ومما زاد من شعورنا بالشفقة الصورة التي كان يعكسها الاعلام هناك عن سؤء الاحوال، والدعوات التي انهمرت من المنظمات والجهات الخيرية لجمع التبرعات للاشقاء المكلومين في جنوب الوادي، وذلك للطريقة العشوائية والمبتزلة التي كانت تجمع بها التبرعات، ولا أنسى مقدار الحرج والدخول في الأضافر الذي عانيته واثنين من صديقاتي عندما رمانا سوء الطالع لأداء صلاة الجمعة في أحد المساجد التي تجمع التبرعات، فما أن انتهت الصلاة حتى تقدم أحدهم إلى المايكرفون وبدأ في استدرار عطف المصلين على اخوتهم المنكوبين في السودان بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة متسولي اشارات المرور فقد كان يقول بصوت يحنن:
يا أخوانا اللي معاه بطانية زايدة عن حاجة ولادو .. اللي معاه هدمة مش لازماه .. اتبرعوا يا اخوتي لأخوانكم اللي بايتين على لحم بطنهم في السودان .. أخوانكم اللي بيوتهم راحت ويّا السيل و..و…
ظللنا نتابع الدرر المنسابة إلينا عبر مايكرفون من مصلى النساء، ونتململ انتظارا لفرصة نتخارج بها من المكان، خاصة بعد أن انتبهت جموع النساوين في المصلى لحالة كون اننا سودانيات ! توجهت إلينا العيون وحاصرتنا بنظرات الشفقة المصاحبة بـ (يا حراااام)، فلم نجد أمامنا سواء أن نرسم على وجوهنا سيماء البؤس والمسكنة، مما جعلني افكر في ان أزود العيار حبتين، وراودتني نفسي أن أميل رأسي جانبا وأضع أصبعي على فمي زيادة في محلبية المسكنة .. عشان يآآآمنن !
عندما تنبأ ناس الارصاد بفيضان استثنائي هذا العام، كذبهم الجميع وأولهم (سيد أحمد) .. ففي الوقت الذي اجتهد فيه رجال الحي المتاخم للنيل في تعلية الحيشان وردم الشارع أمام البيوت، ظل صاحبنا يتابع تلك التجهيزات ولا عليهو، وبينما كانت الردميات تجري على قدم (قندراني) وساق (قلاب) من حوله، كان يدخل ويمرق فيهم بعد أن قام بتركيب (أضان جلد) لتقيه شر نقة (زهرة) وملاحقاتها له بـ:
يا راجل شوف ناس الحلّة كلهم ردمو بيوتهم وانت قاعد تعاين !
وظل الحال على ما هو عليه إلى أن جاءت ليلة السبت، و(فجأتن) انفتحت ابواب السماء بماء منهمر، فسالت دموع السحاب جداول لتصب في بطن بيت (سيد أحمد)، والذي تحول بفعل ردميات من حوله إلى حوض سباحة، تجمعت فيه كل مياه الحي والأحياء المجاورة ..
قضى (سيد أحمد) الليل (ينقف) في موية المطر ويلقيها للخارج من الباب لتعود مرة أخرى من شباك المجرى الذي غيّر اتجاهو وبقى يصرّف موية الحلة جوة البيت !!وقبل أن يقوض الماء ويلتقطوا انفاسهم، خلف عليهم (الكي) بمطرة الاربعاء .. فجلست (زهرة) على مركب عنقريب على شاطيء الحوش، وأواني مطبخها تعوم من حولها، انحنت لتلتقط مصفاة الشاي البلاستيكية عندما مرّت بجوارها ورفعتها في وجه (سيد أحمد) وبدأت في (النقة):
هوي يا راجل اسمعني أنا بحدّثك .. هو الرجال ديل بسوا بيهم شنو ؟ ويعرسوهم لشنو ؟ مش عشان يسكّوا الحرامي في الشتا ؟ ويطلعوا راس البيت ينضفوا السباليق ويفتحوا المجاري ويردموا الحيشان في الخريف ؟
دحين انت ده كلّللو ماسويتو .. وقعدت زي ناس المحلية لمن فاجأك الخريف .. !!
منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]