تجاني حاج موسى : ميتة وخراب ديار
وبذلك لا يصدق المثل القائل (ميتة وخراب ديار) وهذه دعوة لأجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ويبقى على معدي تلك البرامج إعدادها بشكل مشوق ينقل الحوار إلى أفراد المجتمع، لينفعلوا ويتداول أمر تلك العادة وصولاً التبشير بتركها وإبقائها.. وأجزم أن عدداً مقدراً من المعزين يحرصون على تناول وجباتهم في بيت البكاء!! والمحزن والطريف أن منهم من يعزي وما عارف الميت منو!! لكن برغم كل ذلك الذي لا شك فيه أن أهل السودان لا زالوا بخير يحملون في أعماقهم الكثير من قيم الجمال والخير المطلق برغم شظف العيش والمسغبة وهنالك من يقسموا اللقمة (بيناتهم) ولو ما جينا من ذي ديل وأسفنا وذلنا كما قال أستاذنا المرحوم الشاعر “إسماعيل حسن”.
ونمضي في حوارنا لنتطرق إلى ظاهرة الختان المعروف بالفرعوني والسنة، ولحسن الحظ أننا أجمعنا بأن الختان بنوعيه مرفوض، فهنالك حقائق وأسانيد تدعم ضرورة الرفض خاصة لعدم وجود مسوغ ديني، كما زعم دعاة ختان الأنثى بالطريقة المعروفة بالسنة، لأن الحديث الذي جاء في السنة ضعيف وقتله الفقهاء بحثاً وحتى الرواية التي تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يسير في الفريق وسمع صراخ طفلة استفسر عن سبب صراخها ردوا عليه بأن فلانة تختن بنت فلان.. فصاح فيها بأن تخفف ولا تغالي في عملية ختانها للطفلة، وبذلك فسر الناس ذلك التنبيه بأن رخصة بضرورة ختان الإناث دون الغلو في قطع أجزاء من عضو الأنثى التناسلي.. بالطبع هنالك من العلماء من يتحدث أحسن مني، وهذه دعوة للكتابة عبر (المجهر) في هذا الموضوع، فهنالك مقتضى للكتابة.. ورجعت بذاكرتي وأنا ابن الخامسة يوم ختاني.. يا سبحان الله.. وما أعظم نعم الله على العباد.. واستدعت ذاكراتي من وراء كل تلك السنين أحداث ذلك الصباح الذي تم ختاني فيه.. أصدقاء الطفولة وأهلي وتذكرت كافة التفاصيل الدقيقة للمشهد، وكأني أدير شريطا سينمائيا كان مخزوناً في ناحية قصية بعقلي.. تذكرت عادة مفادها أن سرقة الأشياء مباحة!! كيف؟! أقول لكم يذهب أطفال الحي خلسة إلى منازل أهل الحي ويسرقون ما يقع في أيديهم ويودعون كل تلك الأشياء في غرفة الطفل المختون، ولا يحق لصاحب الشيء المسروق استعادته إلا بعد دفع فدية أو غرامة تسلم للصبي المختون ليتصرف في عائد المحصلة بالطريقة التي تروق له.. بالطبع للسارقين من أقرانه نصيب وافر باعتبارهم اللذين جلبوا تلك الغنائم.. ولن أنسى ما حييت علبة العسل الإنجليزي ماركة الأسد التي أحضرتها صديقة لوالدتي يرحمها الله كان أقراني قد سلبوها أسورة ذهب!! في فهمي تلك عادة طيبة فيها مفهوم المغامرة والفرح والتضامن.. ترى لماذا اختفت تلك الظاهرة؟! و(الشعقيبة) تلك أيضاً عادة طيبة اختفت أذكرها وهي أن المرأة أو البنت في طقس المشاط إذا مر رجل أو امرأة أثناء عملية المشاط.. تنادي المشاطة الشخص الذي يمر مصادفة بهما قائلة (الشعقيبة ما تمشي بي عيبها) فيخرج الشخص عملة نقدية برميها في الإناء القابع قرب المشاطة، وهكذا حينما تنتهي عملية المشاط تتجمع حصيلة نقدية محترمة للمشاطة والممشطة.. هسة المشاط انزوى بظهور الكوافير والتسريح.. والله المشاط أحسن وبيطول الشعر خاصة إذا دهناه بالكركار، والذي هو عبارة عن تركيبة اكتسبتها نساء السودان من معارف متوارثة تقليدية تلاشى معظمها بالتفريط في الحفاظ على تلك المعارف، وإن لم تخني الذاكرة الكركار عبارة عن دهان للشعر مكون من زيت السمسم مضاف إليه بعض الشحم الحيواني وقشر البرتقال والقرنفل يتم غليه ثم يستخدم للشعر.. هسه منو البتعرف صناعة مثل هذا الدهان السوداني المضمون المجرب الذي اختفى؟ وصارت بناتنا ضحية الكريمات المستوردة والضارة في كثير من الأحيان.. وأذكر وأنا طفل صغير أصبت بالبلهارسيا وكثيرون من أهلي ناس النيل الأبيض قد أصابهم هذا المرض المميت، لكن رحم الله جدتي فقد شفيت على يدها إذا كانت أبرع صيدلانية برغم أميتها، فقد ورثت عن أمها تلك المعارف التقليدية التي تعتمد على الأعشاب والثمار المتوفرة حتى الآن في سهول وغابات وطننا الحبيب الذي كم فرطنا وأضعنا كثيرا من هباته.. بالمناسبة ثمرة شجرة اللالوب كانت ضمن مكونات الدواء الذي تعاطيته للشفاء من البلهارسيا، مضافاً إليه بعض الأعشاب التي كانت تحضرها جدتي من دكان العطارة.. وواقع الحال الآن الأدوية المصنعة المستجلبة من كبريات شركات الأدوية والغالية الثمن والمضروبة أحياناً، وهذه دعوة للصيادلة من أبناء البلد ليعيدوا لنا إرثاً أهدرناه بلا سبب.. ويا جماعة الخير هل تعلموا أن دولة الصين العظيمة يتداوى مرضاها بأدوية قوامها الثقافة العريقة والمعارف التقليدية!! وبالله عليكم كلكم ذقتم عصير العرديب أو القضيم أو القنقليس أها شن قولكم؟! ما أخير من المياه والعصائر الغازية التي تعج بالأصناف الكيميائية المصنعة؟! فرأيكم شنو في كورة آبري أحمر أو أبيض بارد تشرب بعد نهار حار يقطع العطشة وله فوائد طيبة جمة؟.. وحتى صناعة الفخار العريقة التي اشتهرنا بها منذ آلاف السنين بدأت تنسحب من مسرح الحياة ولعلم القارئ موية نقاع الزير ثبت علمياً بأنها خالية من كل الشوائب الضارة ونقية مية بالمية، وزمن موية الزير ما كنا نشكي من المرض الكلوي.. وهسة لو واحد عمل سبيل أزيار قدام بيتو صدقة جارية لمتوفى من أهله يُساء استخدامه والله رأيت سوء ذلك الاستخدام وكثير من العطشى لا يشربون من السبيل لكن أنا بشرب وأتوكل على الحي الذي لا يموت.. وده كلو كوم وحرامي الأزيار كوم وكسار الأزيار كومين وشوية شوية يختفي الزير والسبيل لتحل محله موية الصحة والغالية كمان.
صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]