مقالات متنوعة
إكتئاب مجاني
نفس المكان .. نفس الزمان .. أين يمكن أن يجتمع أصدقاء جامعة قدماء ليعيشوا جو الذكريات ؟ شارع النيل طبعا ، في سجادة مؤجرة بخمسة جنيهات جوار ست الشاي ، تحتهم النجيلة الناعمة وفوقهم سماء الخرطو
م التي تحيلها المصابيح إلى اللون الأحمر ، وجوارهم صديقهم القديم .. النيل .. لقد إجتزنا جميعا باب الخدمة الوطنية ونحن الآن هنا لنحتفل .. ولكن شئ ما كان قد إنكسر في كل النفوس … أين الضحكات يا أسامة ؟ أين النكات يا يوسف ؟ لا شئ يا سادة .. لم نعد طلبة .. لقد مستنا عصا الحياة السحرية وحولتنا إلى كبار .. لقد رسمت على وجوهنا تلك النظرة المكتئبة لمن جرب ورأى… لمن كان محميا لسنوات تحت ظلال الجامعة لتجئ الشهادة وتجرده في لحظات من هذا الغطاء .. لمن إكتشف إنه حتى خدمة الوطن صارت بالواسطة … يقول أيمن بمرارة ساخرة :
– قالو لي مافي مجال هنا للخدمة ، حنوديك جنوب كردفان .. تتصور الكتب أمر التحرك دفعتي وقاعد يقضي الخدمة معاهم ؟
ويهز الجميع رؤوسهم ويرشفون أكواب الشاي فتسمع الشفطات التي كانت قديما تخفيها الضحكات … يقول يوسف :
– أنا تقريبا شبه جهزت أموري ، بالنسبة للسفر… يا زول ليبيا فتحت سيبنا من الهم ده
– وناس أمواج الخليج عندهم تقديم جديد ؟
– ما عارف والله بس حكاية الفيزا دي صعبة شوية
– والله يا زول أنا قدر أكمل حكاية الجواز دي تعبت تعب لأنو ما عندي شهادة ميلاد
ألخ ألخ ألخ … كلها ونسة كئيبة عن وكالتي ووكالتك ، والفيزا وميزة المنطقة الشرقية عن الطائف ، وإرتفاع مستوى المعيشة في الإمارات … هل ألومهم ؟ ومن أنا لأفعل ؟ لقد صار وطنهم آلة عملاقة للطرد المركزي … يهجره يوميا ألف عقل وعقل ولا نائحة تنوح عليهم .. فمن أنا لألومهم … لو إنتظروا هنا فسنجتمع هنا بعد سنوات وسنوات حين يكون الصلع قد غزا منتصف الرأس والشيب قد تكفل بالباقي ، لنناقش موضوع الزواج … لو إنتظروا هنا سيقتلهم الإحباط ، وهم يرون آخر طبيب قد أغلق عيادته وسافر للسعودية ، وآخر مهندس يكفر بالإبداع هنا ويشد رحاله وآخر معلم يترك المدرسة ويصير نقاشا … ماذا يفعلون بك يا وطني ؟ ومتى سيشبعون ويتركوا الناس لتعيش بكرامة ؟ يا رب لقد ضاقت ضاقت ضاقت … وحين إفترقنا على أمل لقاء آخر لم أكن حزينا من أجلهم .. بل كنت حزينا من أجلي أنا .. لأنني أنا نفسي كنت أبحث عن وكالة
الكاتب الساخر : د.حامد موسى بشير