تحقيقات وتقارير

” صورة ” المأساة : يحدث في جنوب السودان.. فصل عنصري برعاية الأمم المتحدة

[JUSTIFY]ثمّة لقطة نادرة تروي المأساة كلها؛ هنا معسكر كبير للأمم المتحدة في مدينة (بانتيو) بولاية الوحدة، يضمّ الآلاف من (الدينكا) و(النوير) أكبر عشيرتين في جمهورية جنوب السودان.. الأخطر والمُدهش في التراجيديا يمكن أن تستنطقه من خلال لافتتين نصبتا عند مدخل المعسكر، إحداهما تشير تلقاء اليمين، والأخرى سهمها مصوب نحو اليسار.. الأولى مكتوب عليها (دينكا)، والثانية توجّه (النوير) ناحية المكان الأمثل لذهابهم.

الصورة المُحبطة طبقاً لتوصيف (بي بي سي) لخصت الأسباب التي جعلت الأوضاع سيئة للغاية في الدولة الوليدة، واختصرت توصيف الأزمة التي خلفَّت حتى الآن (1.000) قتيل، و(200.000) من النازحين منذ نشوب القتال، منتصف ديسمبر من العام الماضي.. الأوضاع الكارثية عبرَّت بجلاء ووضوح عن مشكلة الانتماء العرقي، والتناحر السياسي والفساد والمؤسسات الحكومية الضعيفة والمنقسمة.

حسناً.. لوهلة يبدو الأمر كما لو أوحت به اللافتتان المنتصبتان قبالة الداخلين إلى المعسكر، فالاصطفاف العرقي على الأرض من خلال الجيشين المتناحرين يبدو أنّه الخيار الأسلم للتعايش حتى داخل معسكرات، ترعاها الأمم المتحدة، وتسبغ على الصراع توصيفاً إثنياً، حتى وإن انتهجت حسن النيّة، بتقديرات زعماء عشائريين، يرون في الفصل صيغة ملائمة للتعايش داخل الحصون الأممية، ومعسكرات النازحين.

بالنسبة للأمم المتحدة فقد دافعت عن قرار إقامة اللافتات بأنّه ضروري لتحقيق الأمن، ويجيء بناء على طلب من أولئك الذين يسعون للمساعدة، وطبقاً لما قال متحدّث أممي، فإنّه: و”كما تعلمون، عندما تدعم الأمم المتحدة أعدادا كبيرة من المشردين في مثل هذا الوضع، فإنّ موظفي الأمم المتحدة يعملون بشكل وثيق مع قادة المجتمعات المحليّة الموجودة في القواعد”، وعليه كما يضيف: “فإنّ (يونميسس) علمت بأنّ النازحين في القاعدة، وقادة المجتمع بأن التوترات بين المجتمعات المحليّة كانت عالية، وهم طلبوا من الأمم المتحدة أن يسمح لأفراد كل مجموعة عرقية بالتجمع في مناطق منفصلة لأسباب متعلقة بالأمن”.

التبريرات من وجهة نظر بعض الخبراء في المنظمات الإنسانية بدت مستندة على حقائق موضوعية لحدّ ما، بيد أنّ آراء غربية أخرى ناقشت المسألة تعتبر أن وضع (أختام) الأمم المتحدة على حقائق التصنيف العرقي يعطي الطابع المأساوي، تمامًا كما لو أن اللافتة بإمكانها أن تثبت الإيحاء، وترسل الرسالة المطلوبة من قبل النخبة التي تحاول جرّ البلاد صوب ويلات المذابح العرقية، ولكن عن غير قصد؛ فإن الدينكا والنوير هما طرفا النزاع، أرادوا ذلك أم أبوا، وعليه ينبغي الفصل طوعا بينهما، حتى في مقامات التعايش، والأزمة الإنسانية التي تحدق بهم.

الرئيس سلفاكير ميارديت في لقائه مع فضائية (الجزيرة) مؤخراً دمغ نائبه السابق وغريمه السياسي رياك مشار بتجييش أبناء قبيلته من أبناء النوير للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ارتكازاً على (الجيش الأبيض)، ونوَّه إلى أن قبيلة (الدينكا) لن تنجر للانفعال وأخذ الثأر من (النوير).. بعيداً عن رواية سلفاكير، وسواءً كانت صحيحة، أم مجرد (مصل) لحقن أجهزة الإعلام، فإن مسألة (العرق) أصبحت عاملاً حقيقياً وملموساً في الأزمة، سيمَّا وأن العنف الطائفي أصبح يتزايد بين القبيلتين المتناحرتين باعتبار أنهما اثنتان من أكبر المجموعات العرقية في البلاد، ما أدَّى إلى تفاقم هروب العديد من المدنيين في مخيمات اللاجئين والمشردين داخليا.

(إليستر) مراسل (بي. بي سي) أوضح أن علامات توجيه النازحين إلى أماكنهم توضح أن التقسيم كان طبقاً لــ(العرق)، ويؤكد نازح للمراسل أن أسرته تعرضت للهجوم من قبل رجال مسلحين لمجرد أنّهم كانوا يتحدثون بلغة (الدينكا).
* خلفية مهمة

وصول رياك مشار إلى الصفوف الأولى للحكم، يستند إلى تاريخ تمرد جنوب السودان الذي انفصل في 9 يوليو 2011 بعد عقود من الحروب الأهلية دامت من 1959 حتى 1972، ثم من 1983 حتى 2005. خلال مشواره، جمع مشار بين صورة القائد ذي الشخصية الكاريزمية بفضل جاذبيته وفصاحة خطابه وبين صورة الرجل المتقلب جلاب المتاعب بسبب تغيير تحالفاته. ولد مشار عام 1953 في ولاية الوحدة الغنية بالنفط لعائلة من قبيلة النوير، ونشأ كمزارع ومرب للماشية ثم سرعان ما دفعه حبه للثقافة إلى التعليم ومن ثم الارتقاء مهنيا واجتماعيا. حصل على شهادة في الهندسة من جامعة الخرطوم، ثم على الدكتوراه من جامعة برادفورد البريطانية. وعندما اندلعت الحرب الأهلية السودانية الثانية، انضم إلى الجيش الشعبي لتحرير السودان في 1984، وتبعه عدد غفير من أبناء النوير لينضموا إلى صفوف الحركة التي كان الدينكا يشكلون معظم أعضائها حتى ذلك الوقت.

خلال الحرب الأهلية، تزوج مشار للمرة الثانية من البريطانية (إيما ماكون) الناشطة في مجال المساعدات الإنسانية، التي توفيت عام 1993 في حادث سيارة في نيروبي. ومنذ عام 1991، دخل مشار في مواجهات مع جون قرنق، الزعيم التاريخي للحركة الشعبية لتحرير السودان ولجيشها، ومع المقربين إليه ومن ضمنهم سلفا كير، حتى أنه قاد محاولة انقلاب فاشلة ضد قرنق. أدت هذه المحاولة إلى تصدع حركة التمرد، وغذّى هذا الشرخ خلفية الصراع القبلي التاريخي بين الدينكا والنوير، واتهم مشار بأنه أمر قواته بقتل آلاف من أبناء الدينكا في بلدة بور فينفس العام. انشق مشار إثر ذلك عن جيش التحرير وأسس تنظيما منافسا وتحالف في ما بعد مع عدوه الأول حكومة الخرطوم، وأصبح يمدها برجاله في قتالها ضد متمردي الجنوب، قبل أن يعود إلى صفوف جيش التحرير في تحول مفاجئ في بداية الألفية الثالثة.

* عامل الخيانة

رويداً.. رويداً.. أغفلت الحركة هذه (الخيانة) وتناستها عند توقيع اتفاقيات السلام مع الخرطوم عام 2005، وفتحت الطريق للاستفتاء على استقلال جنوب السودان. عندها قام سلفاكير، الذي خلف قرنق بعد مصرعه في حادث طائرة، بتعيين مشار نائبا للرئيس لمنطقة جنوب السودان ذات الحكم الذاتي، ثم للدولة المستقلة في يوليو 2011. كان ينظر وقتها إلى وجود مشار في الدرجات العليا من الحكم على أنه عامل حيوي لتشجيع الوحدة بين الدينكا، الذين يشكلون الأغلبية ويهيمنون على الوظائف القيادية في الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبين النوير، المجموعة العرقية الثانية في البلاد. وحاول مشار منذ توليه مهامه أن يمحو الانطباع السيئ الذي أخذ عنه خلال الحرب الأهلية، خاصة بسبب مفاوضاته مع قائد حركة التمرد الأوغندية جيش الرب جوزيف كوني المعروف بالعنف الشديد والدموية، لإقناعه بتسليم سلاحه في محاولة باءت بالفشل. لكن منافسته مع سلفا كير عادت للظهور علنا في ربيع 2013 عندما اختلفا حول تاريخ وجدول أعمال مؤتمر المصالحة الوطنية، عندها سارع مشار بانتقاد “النزعات الديكتاتورية” للرئيس، وأعلن عزمه الترشح ضده لرئاسة الحركة الشعبية لتحرير السودان، الجناح السياسي السابق لجيش التمرد.

في 23 يوليو، أصدر الرئيس سلفاكير بياناً عزل فيه نائبه من وظيفته ومن الحكومة ككل هو وباقان أموم، السكرتير العام للحركة. وفي 16 ديسمبر، اتهمه الرئيس بقيادة محاولة انقلاب فجرت معارك مستمرة في جوبا ومذكراً (بخياناته السابقة). فرَّ مشار إثر هذا الحادث وتم إلقاء القبض على (10) شخصيات سياسية، أغلبهم وزراء سابقون من الذين عزلوا في يوليو. ثم نفى مشار التهمة الموجهة إليه وقال لصحيفة (سودان تريبيون): “ما كنا نريده هو التحول الديموقراطي للحركة. لكن سلفا كير كان يريد استخدام محاولة الانقلاب المزعومة للتخلص مننا حتى يسيطر على الحكومة وعلى الحركة”. وأضاف: “نحن لا نريده أن يظل رئيسا لجنوب السودان”.
* ملاذ مزرٍ

الكاتب والباحث بيك هاملتون، يؤكد وجود ما يكفي من النخب الجنوبية عديمي (الضمير) يؤججون لهيب العرقية لتحقيق مكاسب شخصية. كما يقول مراسل صحيفة (ديلي تلغراف) ديفيد بلير من جوبا حول الأوضاع التي وصفها بالمروعة للاجئين في جنوب السودان بمقال تحت عنوان (الملاذ المزري للاجئي جنوب السودان داخل وطنهم). يستهل الكاتب مقاله بأنه منذ أسابيع كان الجنوب سودانيين يعتبرون مقر الأمم المتحدة في بلادهم الوليدة خارج الحدود لكنهم لم يتصوروا أن يتحول ذلك المكان إلى أكثر المناطق المكتظة بالسكان على وجه الأرض. ويضيف المقال أن نحو (17) الف لاجئ الذين فروا من منازلهم يعيشون في مساحة لا تتعدى (45) فداناً هربا من القتال الدائر بين أنصار الرئيس، سلفاكير ميارديت الذين ينتمي معظمهم إلى قبائل الدينكا، وأنصار نائبه المبعد، رياك ماشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير منذ اتهام الرئيس نائبه السابق بتدبير محاولة انقلاب. ويستطرد بلير واصفاً الموقع قائلاً إن تلك الأعداد من المدنيين، الذين أصبحوا لاجئين داخل وطنهم، يفترشون الأرض الرملية المشبعة بالشمس الحارة ويتنافسون على المساحة الترابية التي سيضعون خيامهم أو فرشهم عليها بجوار خزانات المياه النظيفة والمراحيض. ويقول الكاتب إنه على عكس اللاجئين في معظم الحروب فإن هؤلاء لم يهربوا من تقدم قوات الجيش فقط بل أيضا من المنتمين لقبائل الدينكا الذين أضحوا يستهدفون المدنيين من قبيلة النوير حتى أولئك الذين لا ينتمون لحركة التمرد او الذين لا يحملون السلاح. وأضاف أنه بالرغم من أن الأمم المتحدة تحاول جاهدة توصيل المساعدات إلى اللاجئين إلا أنه يصعب ضمان وصولها إلى الجميع في ظل ذلك التكدس الذي قد ينذر بقدوم الأوبئة لا محالة. ويختتم بلير مقاله بأن ما يزيد المآساة قسوة أنه لا يبدو وجود حل قريب لها حيث يشعر اللاجئون بذعر شديد مما يجعل نقلهم إلى أي مكان آخر خارج تلك المساحة المزرية مستحيلا على حد وصف الكاتب.

صحيفة اليوم التالي
بهرام عبد المنعم[/JUSTIFY]