تحقيقات وتقارير

الطريق إلى “الانتقالية”.. مبادرة تحظى بقبول الأربعة الكبار

[JUSTIFY]بعد خمسة وعشرين عاماً قضاها متنقلاً في إدارات صنع القرار، وصل من خلالها إلى منصب النائب الأوّل لرئيس الجمهورية، يجلس شيخ علي في صف النواب، ينظر من النافذة المطلة على النيل، بعد أن حزم حقائب رحيله من القصر، دافعاً لفاتورة التغيير.. من ذات النافذة يسترق النظر الدكتور نافع علي نافع، تاركاً منصب مساعد رئيس الجمهورية لخلفه، البروفيسور غندور، يشاركهما ذات المكان الدكتور عوض أحمد الجاز، بعد ربع قرن من الاستوزار..
الأمر يضعك أمام سؤال رئيس: هل هذه هي النافذة التي يطلّ من خلالها السودان على بوّابة التغيير والتحوّل؟ استفهامك تتمدّد نقاطه شاملة في داخلها ما تبقّى من المشهد.
في ما سبق كان الآخرون هم من يأتون إلى القصر من أجل التفاوض والحوار.. الآن القصر، ممثلاً في رئيسه، هو من يذهب إليهم من أجل الوصول إلى ميس الاستقرار، في بلاد عانت من ويلات الاختلاف والحروب الكثير، وآن لها أن تستريح من سفر الجفا المتطاولة أيامه.
حسناً؛ دعونا نفكّك الأحداث بإمعان النظر والتحديق في ما توالى من وقائع الأيام الماضية؛ إمام الأنصار يتمترس خلف دعواته للحكومة الانتقالية.. عرّاب النظام في العام 1989، ومعارضه الأشرس في أعوام ما بعد المفاصلة شيخ حسن يقول بأنّ حزبه لن يشارك في الانتخابات إلا حال تأجيلها حتّى العام 2017، باعثاً بمجموعة من الرسائل، لعلّ أبرزها عدم ممانعته لأن يكون المشير رئيساً لحكومة الانتقال السودانيّة.. المشهد يكمله في نقطة أخرى الرئيس نفسه وهو يقود سفينة التغيير، التي لن تستثني أحداً، وبرؤية جديدة.
ثمّة حدث آخر؛ كارتر في الخرطوم.. الرجل في اللحظة نفسها هو مسؤول ملفات الانتخابات حول العالم.. يأتي إلى البلاد ويخرج على الصحفيين، بعد لقائه مع الرئيس في مباني القيادة العامة للقوات المسلحة، ببشرى مفادها أنّ خطوات مهمة سيتمّ اتخاذها في الأيام القادمة في السودان.
البشير يلتقي محمد الحسن محمد عثمان الميرغني، برفقة وفد الاتحادي الأصل، لذات الغرض المعلن، ولمناقشة المذكرة الإصلاحية..
المشاهد المتتابعة والصور المتلاحقة تخبرك: ثمة ما يلوح في أفق البلاد الملبّد بالغيوم، وإن كان الجميع يتّفقون على أنّ تغييراً قادماً، ولكن كنهه غير معروف.. صوب أيّ الطرق تمضي البلاد، مع جدلية الحكومة الانتقالية التي بدأ الطريق يعبّد إليها، ويتم رصفه؟
* البدء من علٍ
أكثر من شهر قضاه الوزراء الجدد في مناصبهم، عقب التشكيل الوزاري الأخير، وهو التشكيل الذي تمّ فيه إبعاد من يمكن تسميتهم بالرؤوس الكبيرة والمؤثرة.. من غادروا المناصب أكدوا أنّ الأمر تمّ بترتيب ومشاورات بينهم ورئيس الجمهوريّة، ما يعني أنّ رجل أغلبيّة إبريل يمسك بخيوط اللعبة، ويوجّهها نحو تحقيق التغيير، باعتباره الهدف الرئيس، الذي يمكن من خلاله البناء للوصول إلى المستقبل.
* كل الخيوط
الآن يمكن الجزم؛ ليس التشكيل وحده، فخطوات المشاورات الجارية الآن، وبرعاية مباشرة من الرئيس، تشي بأنّ ما يجري في الساحة السياسيّة على قدر عالٍ من الأهميّة؛ ففي الأوقات السابقة كانت ملفات الحوار عند أشخاص بعينهم، يمثلون المؤتمر الوطني، باعتباره الحزب الحاكم، بينما تعلو الآن درجة التمثيل والرغبة، انطلاقا من قومية المنصب الذي يمثله المشير، فعملية الإمساك بالخيوط من أعلى ينظر لها المحللون باعتبار أنها تصبّ إيجاباً في خلق حالة من التحوّل في السودان، وبالتالي مواجهة الصعوبات التي يمكن أن تعترض طريق الدولة، حال لم يتم التعامل معها بشكل جديد.
* حجم التغيير وشكله
المؤكّد كذلك أن حالة القبول التي يجدها الرجل من قبل الكثيرين في الحكم والمعارضة، من شأنها أن تسهم في نجاح مسعى التغيير، وهو ما يفرز سؤالاً آخر يتعلق بحجم التغيير وشكله؛ فجمع الرجل بين منصبي الرئيس المنتخب من الشعب، والمشير القادم من صفوف القوات المسلحة، يجعل سؤال إعادة التجربة المصرية في السودان ليس مستبعداً، وهو ما يطلق عليه الآخرون لفظ (عسكرة) الدولة، والعودة إلى نقطة الانطلاق للإنقاذ الأولى، مع مراعاة فروق الظروف، وهو أمر قد يجد ما يدعمه من وقائع آنية، فالانفجار في الجنوب، الذي يحادد (6) ولايات، مع استمرار الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفورـ من شأنه أن يمنح مبررات اختيار ولاة عسكريين في تلك الولايات، وانتظار استقالات الممسكين بمقاليد الأمور هناك، وهو أمر لا يبدو مستبعداً؛ فالمتتبع للمشهد السوداني في أيامه الأخيرة، يرى الردّة على الانتخابات وشرعيّتها، واستبدالها بشرعية السعي نحو القبول، باعتباره أداة الخلاص الوحيدة، كما أن القوى السياسية المعارضة لن ترفض هذا النوع من الحلول، لعوامل كثيرة، فهي قد تكون الوسيلة الأكثر مقبوليّة لتحقيق أمنيتها في حكومة الانتقال، كما أنّها في جانب آخر ستخلّصها من بعبع الحركة الإسلاميّة منفردة السطوة والصولجان، ولربّما المؤتمر الوطني في وقت لاحق.
كما أنّ التاريخ السياسي السوداني يربط بين الحكومة الانتقاليّة، وبين المشاركة العسكريّة، على اعتبار قومية القوات المسلحة.. كل هذه الأمور قد تجعل من التغيير أمراً قريب المنال، تدفع أشرعته بشكل رئيس الوقائع السائدة في سودان اليوم، بالإضافة للرغبة الرئاسيّة، وهو ما يجعل الآمال منعقدة على المذكرة الإصلاحية المنتظرة.
* انتظار الغرس
إمام الأنصار يعد في طليعة المستفيدين حال مضت الأمور إلى نهاياتها، فالدعوة لحكومة انتقالية كانت هي حلم الرجل، منذ ما يقارب ربع القرن.. منذ (تهتدون) وحتى وشاح الجمهورية الأخير كانت جلّ الحوارات التي جرت بينه والسلطة تدور في هذا الفلك؛ وفي آخر التصريحات المنسوبة للرجل في وسائل الإعلام، قال إن البشير اتفق معه على قيام حكومة انتقاليّة، وهو الاتفاق الذي طالما انتظره الإمام، وفي سبيله خاض المعارك ضد الكلّ، بمن فيهم حلفاؤه في المعارضة، وعلى رأسهم الجبهة الثوريّة ومن يراهنون على انتصارها..
طيّب؛ ما الذي يريده الإمام من حكومة انتقالية، وماذا يمكن أن تحقق له؟ يجيب الإمام نفسه على الاستفهام، من خلال رفضه لإسقاط النظام بالقوة، لمنع تكرار النموذج الصومالي والليبي والسوري في السودان، فالتغيير العنيف عند الإمام مساوٍ للصوملة، لذلك يرى في الحكومة الانتقاليّة الآليّة المهمّة في جمع الصف الوطني وتحقيق قومية السلام والدستور وإنهاء التمكين، بجانب الاتفاق على أسس وضوابط للانتخابات القادمة حتّى تكون حرّة ونزيهة، فضلاً عن أن تكون هناك آلية قوميّة للحكم في السودان لحماية البلاد من التفكك والتدخل الأجنبي، والوصول إلى برّ الانتقال يرى فيه الإمام تحقيقاً لمشروع نظامه الجديد، والبديل الموضوعي للنزاعات والصراعات، في وقت يرى فيه مراقبون أنّ ما تمضي إليه البلاد الآن للمهدي فيه القدح المعلّى، وبالتالي؛ سيكون أكبر المستفيدين. وفي وجهة ما من التحليل؛ أكبر الداعمين لخطى الإصلاح التي ستأتي بالمعارضين شركاء في الوطن والهم والمعالجات.. باختصار، الإمام الآن ينتظر حصاد غرسه طوال السنوات السابقة، عبر حكومة انتقالية، وفيها مجلس للسلام القومي.
* نيو لوك
وعربة كارتر تنهب الشوارع الخرطوميّة، تقف عند المنشية بعد القصر.. ثمّة لقاء يجمعه بالشيخ الترابي، تخرج عقبه التصريحات المنسوبة للمؤتمر الشعبي، بممانعته المشاركة في الانتخابات في العام 2015، واشتراطه أن يتم تأجيلها حتّى العام 2017.. المطالبة تحتوي في داخلها القبول بمبدأ الحكومة الانتقالية حيث أكد الحزب موافقته على الحوار بمشاركة كل القوى السياسية بما فيها المؤتمر الوطني وحاملو السلاح لتأسيس وضع انتقالي أشبه بما جرى في اليمن، توطئة لانبثاق حكومة انتقالية، وبدا الشيخ خلال حديثه مشفقاً على واقع البلاد، داعياً لضرورة الاتفاق بين كافة مكوّناته، معتبراً أن البشير يمكنه أن يقود السودانيين للاتفاق..
إذاً، حزب الشيخ يلتحق بعربة الانتقاليّة، وينتظر اللقاء مع الرئيس، ملتحقاً بالاتحادي الأصل، الذي حسم موقفه منذ أمس الأوّل.. بعدها سيحزم الشيخ حقائبه متجهاً نحو الولايات المتحدة الأمريكيّة، في زيارة لها علاقة بالأوضاع السياسيّة السائدة في المنطقة، وبدعوة من كارتر، في زيارة الاستفهامات بالخرطوم.
* كروت كارتر
كارتر في الخرطوم بتأشيرة تتعلّق بقضايا الدودة الغينيّة، والتراكوما، وعمى الأنهار، إلا أن المتابع لحركات وسكنات الرجل، يجده قد تجاوز مبنى مستشفى الخرطوم، إلى القيادة العامة، وتجاوز مستشفى مكّة ليضع خطواته في منشيّة الشيخ، ما يعني أنّ الزيارة ذات أهداف سياسيّة بحتة، وأنّ غرضها الرئيس تحقيق الاستقرار في السودان، وفقا للرغبة الأمريكيّة التي تحاول أيضاً أن تمسك بخيوط اللعبة، قبل أن تتسلل من بين أصابعها، خصوصاً في ظلّ الانفجار في الدولة الوليدة بجنوب السودان، وهو ما يعني أن انزلاق السودان في الفوضي قد يعيد تجربة البحيرات العظمى، خصوصاً في ظل اشتعال بانغي، وعدم الاستقرار في القاهرة.
بعضهم قد يقول بأن كارتر لم يأت ممثلاً للإدارة الأمريكيّة، وبالتالي فإنّ وجهة نظره ليست بالضرورة وجهة نظر البيت الأبيض، ولكن الرجل الحامل لألقاب صاحب مركز الدراسات والبحوث، والمراقب المعتمد لانتخابات العالم الثالث، والرئيس الأسبق، له تأثير على عملية اتخاذ القرار السياسي هناك، ما يعني أنّ للزيارة علاقة كبيرة بالرغبة الأمريكيّة في عمليّة إعادة رسم الخارطة السودانيّة، ومسارات سياساتها في المستقبل القريب، إلا أن سؤالا رئيساً يتعلق بالوعود الأمريكةي الممنوحة للحكومة السودانية ولقيادات الأحزاب حال تم الالتزام بالوصول إلى حالة الوفاق الوطني، وتشكيل حكومة انتقالية ومدى التزامها بالأمر..
البعد الآخر للمعادلة يقول إن السودانيّين هم أحوج ما يكونون للاتفاق فيما بينهم، غضّ النظر عن الحوافز المنظرة والعقوبات الواقعة، وهو ما تختصره الدبلوماسية الأمريكية في خطاب الجزرة والعصا.
* سؤال الحركات
إلى الجزء الأصعب؛ ثمّة رقم ناقص في طرفي المعادلة ولا يمكن إغفاله بالكلية، فتقارب وطني اتحادي شعبي وأمّة لا يعني بالضرورة الوصول إلى صيغة اتفاق تقضي على كل الأزمات في السودان، فالمعركة تتجاوز (سلمية) أحزاب الخرطوم، إلى معادلة الصراع بين المركز والهامش، أو الصراع بين الحكومة وحملة السلاح من المتمردين، فمعركة الصيف الساخن التي تقودها القوات المسلحة لحسم التمرّد تحقق الكثير من النجاحات الميدانية، لكنها في المقابل لن تحسم كل الصراع، ما لم يلجأ الجميع إلى مائدة المفاوضات، والوصول إلى تسوية سياسيّة شاملة، ينخرط بعدها حملة السلاح في معركة البناء الوطني.. بحسب الكثيرين فإنّ هذا الأمر هو الحافز الذي سيقدّمه المجتمع الدولي للخرطوم حال نجحت في تلطيف أجواء الداخل بينها وفرقائها السياسيين.
الأمر يربطه آخرون بالزيارة المرتقبة لوزير خارجية النرويج إلى السودان الأسبوع القادم، وكأنّ المشهد يكرّر نفسه، فبعد الورقة الأمريكية التي قدّمت لمعالجة صراعات الحكومة والحركة الشعبية في وقت سابق، تحركت هيلدا جونسون في طريق الوصول إلى نيفاشا، باعتبارها آخر العلاج، وهو المشهد الحاضر الآن، ما يزيد من احتمالية جلوس الجميع إلى التفاوض، وفقاً لتأثيرات المشهد الجنوبي علي أوضاع السودان، وعلى أوضاع الحركات المسلحة، وما يمكن أن تتعرّض له من ضغوط.
* على بوابة الانتظار
الخطوات التي تقطعها حكومة البشير في سبيل الوصول إلى محطة التوافق الوطني عبر بص (الانتقالية)، يقف في سلمه الآن، بحسب التداول على مستوى الإعلام؛ كل من الشعبي، الاتحادي الأصل، والأمة القومي، في انتظار الآخرين، فهل يصعدون؟ أم أن طرقاً أخرى على السودانيين أن يمشوها في طريق الاختلاف؟

الزين عثمان: صحيفةاليوم التالي [/JUSTIFY]