مقالات متنوعة

المنظار السحري


المنظار السحري
الحياة من دون أقنعة مستحيلة …
أقولها مخالفا لكل من يتفلسف بأن الحقيقة العارية وحدها هي ما يجعل المرء مرتاحا … لولا القناع الإجتماعي لقلت لكل من لا يعجبني : يلعن أبوك .. لولا الجدران والملابس والكيبورد وكل السواتر التي نتخ
بأ خلفها لصارت الحياة غابة بلا أشجار … بعض الكذب والخداع والنفاق ضروري لنستمتع بذلك الإحساس الأبله بالإطمئنان ، لأننا ومهما كنا نحب الحقيقة فلن نطيق أن نرى الناس عرايا طيلة الوقت … تخالفونني الرأي ؟ هذا من حقكم ولكن أقرأوا أولا قصتي مع المنظار السحري وبعدها أحكموا على آرائي …
في ذلك اليوم ناولني عجوز رث الثياب منظارا قديما وقال :
– شيل المنظار ده يا ولدي
تناولت المنظار وأنا أساله :
– شكرا يا حاج .. لكن لشنو ؟
قال لي وهو يرحل :
– عشان أنا ساكن براي في الجبل وأشتقت لزول يونسني
هززت رأسي من هذا الجنون وذهبت … وضعت المنظار في عيني وأنا أفكر في صديقي أحمد حين أعرضه عليه ، وفجأة ظهر أحمد خلال عدسة المنظار .. نزعت المنظار ونظرت حولي فلم أجد أثر لأحمد ، وضعته مرة أخرى فظهر أحمد وهو في غرفته ممسكا بتلفونه ومنهمكا في حديث هامس وفي عينيه نظرة هيام … نظرت للمنظار غير مصدق .. هذا كنز .. كنز .. وتلفت بحثا عن الرجل ولكنه كان قد إختفى … حملت المنظار بفخر وذهبت لدار حزب ( الشباب الحر ) الذي أنتمي إليه وإلى د.كمال رئيسه والسياسي المحبوب وسط الشباب .. كان يخطب بحماس عن الفساد والتدهور البطالة وأن الشباب هم القوة التي ستحكم في المستقبل وإن هذا النظام الفاسد سيذهب للجحيم ألخ ألخ … صفقنا له بحماس وكنت أنا من أشد معجبيه ، وحين رجعت للبيت وضعت المنظار وأنا أفكر فيه فظهر لي في مكتبه ومعه رجلين يتكلمان معه ، أحدهم يقول :
– الإنتخابات قربت يا دكتور شبابك ديل واثق منهم ؟
– واثق منهم مية مية يا سيادتك وبعرف أوجههم وين
– تمام جدا … مر علينا بكره عندك أمانة شيلها
أحسست بماء بارد يسكب على رأسي .. د. كمال الثائر الشريف يفعل هذا ؟ معقول ؟ لا أصدق .. ومن يومها تركت الحزب بل تركت السياسة كلها ، وحين سألتني حبيبتي نوسة عن السبب حكيت لها بدون ذكر المنظار فقلت لي بتأثر :
– ديل ما شبهك يا عبدو أبعد منهم إنت إنسان صادق ورقيق
جميلة ورقيقة حبيبتي نوسة وشديدة الحنية .. أوصلتها لمحطة منزلها وراقبتها وهي تبتعد .. هذه الغزالة ستكون زوجتي .. كم أنا محظوظ … وعدت للبيت ووضعت المنظار وأنا أفكر فيها … رأيتها تدخل البيت وتطوح بحقيبتها لأقرب سرير وهي تلهث ثم تهجم على على الثلاجة لتجرع من باقة الماء البارد مياشرة ، ثم تلقي بالجزمة والطرحة في سرير آخر وتنهمك في إزالة البودرة والمساحيق وووو حتى صار وجهها شئ بلا طعم او لون ولولا إنني كنت أراقبها لما عرفتها .. تتفلت حولها للسرائر ثم تصيح :
– الزفت الحيوان الغير الملايات دي منو ؟ دي إنتي يا نانا ؟
تظهر نانا أختها وتندلع المشادة الكلامية .. أنا قلت واللون ده ما بجي مع ألخ ألخ .. حبيبتي الرقيقة صارت وحشا يزأر من أجل الملايات ورأيتها تعود لغرفتها وتركل أخيها الصغيرة مزمجرة :
– زح من وشي
نزعت المنظار مذهولا .. هل هذه نوسة التي كنت أفكر جادا بالإرتباط بها ؟ نظرتها وهي تشاجر أختها في الملايات جعلتني واثقا أنها ستطيح بعنقي في مسائل أكبر … أعوذ بالله .. أعوذ بالله … وتأملت المنظار الرهيب .. يجب أن أتخلص منه وإلا سيفسد لي حياتي .. سيزعزع إيماني بكل شئ … ولكن مثلما يحدث الإدمان إحتفظت بالمنظار وعبره رأيت وعرفت الدنيا بدون أقنعة … رأيت جزارنا الضاحك البشوش وهو يعلق فخذ الحمار قبل الفجر في خطاطيف الجزارة …. رأيت أستاذ ع المربي الفاضل وهو منزو في ركن قصي من مكتبه متأملا بعض الصور ال … علي هاتفه .. رأيت وسمعت عن إمام الجامع التقي الذي ألقى بخطبة عصماء يوم الجمعة وفي الجمعة التي تليها قبض عليه متحرشا بطفل .. رأيت ورأيت ورأيت وليتني ما رأيت لأنني الآن أتسلق الجبل وأجلس بجوار ذلك العجوز الذي أعطاني المنظار وأعتزل الحياة لأنه لم يرها بعينيه التي عليهما حجاب سميك مثل كل البشر .. بل راءها عبر منظار سحري … نظر لي ونظرت له ولم نتكلم بل جلسنا نتأمل العالم من أعلى الذرى … يوما ما سيموت هو ويتركني خلفه عجوزا رث الثياب أنزل للسوق باحثا عن شاب سئ الحظ لأمنحه المنظار حين أشعر بحوجتي للصحبة .. وهكذا تدور الدائرة

الكاتب الساخر : د.حامد موسى بشير