منى سلمان

سيد محكر الضيفان

سيد محكر الضيفان
توقفت عربة الترحيلات التي تقوم بتوصيل العاملين في تلك المؤسسة الخيرية، والتي تعمل فيها ايمان أمام العمارة التي تقطن وأسرتها في احدى شققها .. نزلت عبر باب الحافلة المنزلق بمشقة وهي تحمل بيديها الاثنتين مجموعة اكياس البقالة التي تحوي بعض الخضر والفواكة واللحوم، فقد تعودت أن تطلب من الهندي الذي يعمل في خدمة العاملين، ان يمدها بها من سوق يقع بالقرب من المؤسسة ..
عبرت المسافة التي تف
صل بين العربة ومدخل العمارة مسرعة هربا من لفحة السخونة والسموم التي لفحتها من بعد تكييف العربة العالي، وهي تلعن الظروف التي اجبرتهم على قضاء فصل الصيف في تلك المدينة الخليجية الغائظ صيفها، بينما هرب نصف سكانها الى المصايف وخارج البلاد ..
التقت جارتها اللبنانية في المدخل فساعدتها على دخول الاسانسير وحملت عنها بعض الاكياس ثم اعادتهم لها وودعتها امام باب الشقة وهي تداعبها قائلة:
ربنا يكون في عونك يا خية ما إلك غير وأفت المطبخ كل يوم .. لك آآآنا ما بطبخ غير في الويك إند !
حملت ايمان أكياسها وغادرت المصعد قبل ان ينغلق الباب وحيت جارتها وهي تتمتم:
عاد أنا لو زي حالتك ما جيت لي ..
دخلت ايمان الشقة ووضعت الاكياس على طاولة المطبخ ثم توجهت لغرفتها .. خلعت حذائها والقت بالثوب على السرير ثم عادت مسرعة نحو المطبخ وهي تنادي على ابنتيها من غرفتهما:
يا بنات تعالوا سريع ساعدوني النطلع الغدا قبال ابوكم يجي .. واحدة تقطع السلطة وواحدة تحمر البطاطس .. يلا سريع يا بنات
كانت هذا هو برنامج ايمان اليومي، منذ ان التحقت بالعمل في تلك المؤسسة، والذي شقيت وزوجها خالد في الحصول عليه، لكي يعينهم على تسديد مصاريف مدارس الابناء التي تقازم عنها مرتب خالد وعجز عن الايفاء بها .. ما ان تدخل للبيت وهي محملة بالاغراض حتى تسرع للمطبخ حافية بعد ان تلقي بحذائها وثوبها كيفما اتفق، ومع ان بناتها الاثنتين وشقيقهم يعودون من المدرسة قبلها، الا انها لا تجد منهم اي عون في انجاز مهمتها، بل في الغالب لا ينوبها من طلب مساعدتهم الا الشلهتة ووجع الحلق، فالكل مشغول في دنياه الخاصة ..
كانت ايمان لا تزال تقف امام البوتجاز وتقلب حلة على النار، عندما دخل خالد للبيت ورمي بسلسلة المفاتيح على الطاولة ثم تقدم نحو المطبخ وهو ينادي عليها :
ايمان .. انتي في المطبخ ؟
وقبل ان ترفع رأسها وتجيبه كان قد وصل لعندها .. (حياها) كيف الحال ؟ فأجابته :
تمااام .. مالك لاحقني للمطبخ جيعان ولا شنو ؟ ثواني والغدا يجهز
قال وهو يتناول قطعة طماطم من صحن السلطة:
ان شاء الله يكون غداك فيهو مهلة ؟ .. جبتا ليك معاي ضيوف
تغيرت ملامح ايمان وزالت البسمة من وجهها وحل مكانها ضيق حاولت ان تخفيه:
خير ان شاء الله .. عاد ما اصلك ما بتجينا يدك فاضية .. جبتا لينا منو ؟
يتجاهل نبرة الضيق والسخرية في صوتها ويقول:
مأمون وسعيد أولاد عمك الطيب جارنا في البلد .. و(عندما تبدو عليها علامات الحيرة وعدم العرفة) ياخ الاولاد الخدر اللما جو من السودان نزلوا عندنا هنا .. نسيتيهم ؟ المهم لما يجو حا تتذكريهم .. جوني علي في المكتب ومسكتا فيهم قلتا ليهم لازم يجو يتغدو .. يلا شهلي طلعي غداك سريع الجماعة طالعين وراي بالسلالم .. (يضحك) لي هسي بلاوزو من الاسانسير !!
غادر خالد المطبخ وهو يكمل جملته الاخيرة فلم يسمع ايمان وهي (تطنطن وتخاطب نفسها هامسة) وماسك فيهم مالك ما تفكهم يغورو يتسممو محل ما بيتسممو .. يوم واحد نفسي نرتاح من ضيوفك ديل !
ناداها من بعيد وهو يتوجه للغرفة:
نعم ؟ بتقولي في حاجة ؟
فرفعت صوتها وقالت بـ(تلعثم):
لالا .. ما قلنا حاجة (تشيح بيديها وتهمس) وهو نحنا بنقدر نقول حاجة معاك يا حاتم زمانك ؟!!
رغم سنوات الغربة الطويلة، والمعاناة التي لا تبدو لها نهاية، ما زال خالد يحتفظ بعادة أهل البلد في الحفاوة بالضيوف واكرامهم بالطعام، ورغم تقليص الميزانيات الذي نال من مرتبه وخصم ربعه، والذي اجبره مرغما على القبول بأن تبحث زوجته عن عمل يسد الثغرة .. ورغم سيف التفنيش المسلط على الرقاب ومخافة العودة بخفي حنين للبلد الذي لا يمتلك فيه بيتا ولا سقفا يأويه، لم يتوقف خالد يوما عن استقبال الضيوف واطعام الطعام على حبه مسكينا وعازبا وعابر سبيل بتأشيرة .. وظلت شقته برغم صغرها قبلة للمقطوعين والعنقالة وفاقدي الحنان والسند الباحثين عن ريحة البلد، والتي يتنسمون شذاها من رائحة القدحة في سبكة الملوخية التي تجيدها ايمان ..
المشكلة ان ايمان كانت رغم الطنطنة والعكننة تقوم بخدمة ضيوفها بطيب خاطر، ولا تجد بأسا عندما تأوي لفراشها ليلا مهدودة الحيل طالما قامت بواجبها على اكمل وجه، ولكن منذ نزولها للعمل صارت تعاني الامرين، فهي تقضي يوم الجمعة من صباحا لي مطاحا داخل المطبخ، وما ذاك الا لتنجز طبيخ اسبوعها عساها ترتاح من شقاء الشعوطة اليومية، ولكن قبل ان ينتصف الاسبوع يكون خالد وضيوفه قد قضوا على الاخضر المفروك واليابس المحمر في ثلاجتها، فتعود مرغمة لصنع المزيد ..
كلما راجعت ايمان زوجها وطالبته بـ مسك يده قليلا تحسبا للظروف، كلما افحمها بـ (الضيف بجي بي رزقو) والرسول صلى الله عليه وسلم قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وويحكي لها كيف ان جده كان سيد الكرم ومحكر الضيفان .. وعندما تكثر الجدال وتتعلل بأنها تعبت من كثرة الشقاء والمساسقة بين المطبخ والشغل، يفحمها بجواب يسكتها من فورها ( لو تعبتي أرسل للبلد يعقدوا لي علي واحدة من بنات اعمامي ديل عشان تجي تساعدك) وبذلك فقط ينهي جدل النقاش ويجعلها تقوم الى مطبخها من سكات وفي خاطرها اهزوجة (نشاطتي جاتني يا ابو وليداتي) !!

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]