مقالات متنوعة
(صرخة صامتة ) .. لقد بدأ الشتاء …

لقد بدأ الشتاء …
نع صريرا كئيبا كأنين الأشباح … ومن أسفل الكوبري المظلم تحرك شبح صغير بحذر كما يتحرك الفأر الخائف ، وحين دخل مجال الأضواء ظهر كطفل صغير في حوالي السابعة من عمره ، تضافرت ملابسه مع شكله وتعابير وجهه لتمنحه عن جدارة لقب ( شماسي ) … البرد يحرك الجوع كما يحرك الذكريات ، وما جعله يخرج كان الجوع ولا شئ غير الجوع .. يمشي بحذر بين الحواجز الأسمنتية بين مواقف الحافلات ويدنو من مكان باعة الموز والبرتقال عله يجد فاكهة نسيها البائع أو تركها لأنها فسدت … رفع رأسه لأعلى فقابلته اللافتات الكبيرة على الأعمدة والتي كانت كلها تحمل صورا لرجال يرتدون الجلاليب وعلى وجوهم سيماء النعمة .. لايعرف من هم ولا لماذا وضعوا هنا ، كل ما يهمه كان الطعام … هناك برتقالة ملقاة بجوار برميل كبير للقمامة ، دنا منها فوجد نصفها الصالح وقد سبقه أحدهم وأكله .. البرميل كان قذرا ومليئا حتى فاضت أحشائه وتحته أستلقى شماسي آخر نائما ومن فمه تدلى قطعة قماش سوداء بها مادة السيلسيون وعلى جدار البرميل وبحروف أنيقة كتبت : نحو عاصمة حضارية نظيفة .. من قال إن بلاد العجائب من وحي الخيال ؟ … لايوجد طعام والبرد قارس والجوع قارس ولو عاد لأسفل الكوبري لضربه الآخرين ، لذلك تمدد جوار ذلك الراقد وعلى عينيه دمعة صامتة سالت … السماء كانت صافية والنجوم كانت ألمع وأجمل .. يقولون إن النجوم في الشتاء تكون أكثر لمعانا ولكنه لم يكن يدري بهذا ، فكيف ترى النجوم وفي عينيك غشاوة من الدموع ؟ وحين أغمض عينيه إنحدرت الغشاوة لتصنع خطين من الدموع على خده الأغبش ومن أعماقه إنطلقت تنهيدة حارة … لم ينطقها ولم يفكر فيها ولكن الليل ترجمها ورفعها للنجوم فزادت لمعانا وهي تسمع دموع الصغير وهي تضطرع : اللهم إني أشكي إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس .. يارب المستضعفين .. أنت ربي .. إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي ولكن رحمتك وسعت كل شي … قالها أعظم البشر ذات يوم وهو وحيد ومقهور فأهتزت لنداءه أركان السماء … ونام الصبي على صفير الريح وهي تهز اللافتات ، وعلى صوت دحرجة الأكياس وخشخشة الجرائد التي يحملها الهواء وعلى صوت يأتي من بعيد .. بعيد .. من راديو لحارس ساهر منه يخرج صوت شجي يغني .. يا جمال النيل .. والخرطوم بالليل
الكاتب : د.حامد موسى بشير