منى سلمان

‫ما بصرح يوم بأسمو !!

‫ ‫ما بصرح يوم بأسمو !!
حمل (مصعب) الابريق ثم ناول جده بروة الصابونة وتهيأ لمساعدته على غسل يديه من لزوجة ملاح المفروكة وبقايا الكسرة والذي تغدى بهم منذ قليل .. اشار حاج (حسنين) لحفيده أن كفى بعد أن حمل لفمه شبه الخالي من الاسنان (بقة) وتمضمض بها جيدا ثم ارسل الماء من فمه في شكل نافورة حتى وصلت لجزع النيمة التي يستظل بظلها ويضع سريره تحتها، هربا من سموم المراوح الذي يتسبب له بوجع الراس ..
بعد ان انهى مهمته، اتكى على جنبه ووضع يده تحت خده في تكويعة مزاج، ثم التفت الى (مصعب) ونظر اليه من فوق نظارته السميكة وقال في مودة وهو يطق على طرف صينية الطعام بيده:
شيل الصينية دي من هني وناديلي بوك آآآ جنا
تعود حاج (حسنين) على قضاء معظم ساعات يومه تحت شجرة النيم بالقرب من باب الشارع، منذ وفاة زوجته ورفيقة دربه (نعيمة)، فقد اعتزل أهل الدار من ابنائه وزوجاتهم واحفاده الصغار، استيحاشا وحزنا على فراق وليفته، وهربا من كثرة الحركة والاقدام الداخلة والخارجة، وخوتة وضجيج الصغار الذي لا يهدأ لا ليلا ولا نهار .. حتى تناول الوجبات طلب من ابنه البكر (مصطفى) والذي يرعى شئون الدار من بعده، أن يحمل إليه ليتناوله وحيدا بعيدا عن لغوثة الصغار، بحجة انه لا يأكل كثيرا وكل ما يتناوله هو بعض الروب الفطير لافطاره وقليلا من مفروكة أو شوربة لغدائه وكوب من اللبن لعشائه، فلا داعي لان يزاحمهم ويشغل حيزا على مائدة الطعام ..
انتبه الحاج من غفوته على صوت (مصطفى) الجهوري يقول:
نعم يا حاج ؟ ما جابولك كباية الشاهي لسه ؟ ثم التفت ينادي بصوت عالي:
مصعب .. يا ولد .. اتسرع جيب الشاي لي جدك
ولكن الحاج أمسك بيده وجره ليجلسه بجواره وهو يقول:
لالا ما ناديتك للشاهي .. تعال اقعد اللحدثك ..
جلس مصطفى مرغما فهو يعلم ما سوف يطلبه منه والده، ولكنه قال في صبر:
خير يا حاج ؟
قال الحاج بضجر: يخرخرن دوماتك آآآ ولد .. بتتغابى ؟ ماك خابرني شن بدور ؟
فقال مصطفى مراوغا: شن بتدور يعني؟
فتبسم الحاج وهمس بصوت مبحوح: الغبا اليغباك .. انضم يا ولد شن سويت في الموضوع الحدثتك بيهو ؟!!
ظل مصطفى واشقاءه يعمدون لسياسة الهرب والتسويف، منذ أن (هفّت) لوالدهم الشيخ الثمانيني قعيد الفراش فكرة الزواج مؤخرا .. في الحقيقة ان فكرة الزواج ظلت (تتاوره) بين الحين والاخر بعد وفاة حاجة (نعيمة)، فقد تعود أن (يجيب سيرة العرس) ويتخير من عزباوات الحلة واراملها واحدة بعينها، ثم يطلب من ابنائه خطبتها له ويظل لسانه يلهج بمدحها وتعديد محاسنها لبعض الوقت، ثم تمر الايام وينسى الموضوع جملة وتفصيلا، ولا يذكره مرة اخرى إلا بعد ترمل أو طلاق احدى حريم الحي، ولكن طال الأمر في هذه المرة أكثر من المعتاد، وصار الحاج يلح ليلا ونهارا على ان يتقدموا له بطلب يد (مدينة) احدث نساء الحي ترملا واكثرهن وجاهة ونورة، برونق الحياة الذي لم ينطفي من وجنتيها وسنوات عمرها التي لم تتخطى الخمسين بعد ..
حسنا، بعد مرور سنين العمر وتعاقب مراحل الحياة، وفي لحظة ما قد يجد الإنسان نفسه وحيدا وقد فارقه الشباب والصحة وتفرق عنه الأهل و الأحباب، أو انشغل كل منهم بحياته الخاصة، فيظل يقاسي الوحدة والعزلة ويعاني من جفاء من حوله مما يدفعه للتفكير في الزواج مرة أخرى، ولا بأس في ذلك فهذا زواج أساسه التواد والرحمة، والبحث عن الونس والرفقة، وليس الهدف منه التصابي واستعادة الشباب، أو التفكير مرة أخرى في الدخول لدوامة الانجاب، وتكرار تجربة الترباية الشاقة على طريقة (بعد ما شاب دخلوهو الكتّاب) !!
للحقيقة، وتحدثا بلسان بنات جنسي اللاتي يعانين من الوحدة والتهميش من الارامل والعزباوات، لابد ان نقر بأن الرجل والمرأة سيان في هذا الاحساس بالحوجة لشراكة الونس، فبعد أن يكونا قد أديا رسالتهم مع الأبناء، يكونون في أمس الحاجة إلى من يشاركهم حياتهم ويبادلهم الرعاية والاهتمام، إلا أن كبار السن عامة وخاصة النساء، عادة ما يصطدمون برفض الأبناء لزواجهم للمرة الثانية، وخاصة ان تقدموا في السن وبلغوا من الكبر عتيا، كما أن العرف الاجتماعي السائد هو أن المرأة لابد أن تخجل ولا تفكر في الزواج مرة أخرى ان كانت شابة فكيف بها وهي في هذا السن !!
الجميع سواء ان كانوا من طبقة المتعلمين والمثقفين أو كانوا دون ذلك حظا، الكل ينظر للموضوع باعتبار انه بالفعل عيب اجتماعي فلماذا تحتاج المرأة إلى الزواج وخاصة إذا كانت أنجبت الأبناء وانجبوا لها بدورهم الاحفاد ..!!
على كل حال، تختلف أسباب المرأة عن مبررات الرجل في البحث عن شريك لاستكمال مسيرة الحياة، فبينما يكون دافع المرأة مرتبطا بالاحتياج للشعور بالأمان والحماية، يبحث الرجل عن الونس والصحبة ورفقة شراب جبنة الضحى، بالاضافة للحوجة الاساسية لمن يدبر شئونه الحياتية ويلبي احتياجاته من طعام وشراب، دون من ولا أذى ولا حنفة وجه زوجات الابناء وطنطنانهم .. أما ما يجتمع عليه كل من الرجل والمرأة فهو الرغبة في الاطمئنان إلى أن هناك شريكاً يعيش معه، وينام بجواره ليقوم بتلقينة الشهادة ان فاجأه الموت ليلا، لأن الخوف من الوفاة أثناء النوم هاجس يسيطر على كبار السن وتزيد هذه المشاعر مع تقدم العمر خشية أن يموت احدهم دون أن يشعر به أحد، وعندما يأتي القوم لايغاظه صباحا يكون قد تكنكش فيصعب فرده وفر جسده لزوم التكفين ..
مخرج: على طريقة الفنان الذري عليه الرحمة في التورية للمحبوب (ما بصرح يوم باسمو وما بقول للناس دا مين)، كان حاج (حسنين) يستحي أن يجيب سيرة معشوقته الجديدة التي ملكت عليه جنانه .. ظل (مساهرا) حتى صلاة العشاء في انتظار عودة (مصطفى) من الجامع، والذي وعده تهربا وزوغة بالعودة لمناقشة موضوع العرس في المساء، لذلك ما ان دخل من الباب حتى اعتدل الحاج من رقدته وسأل:
أها مشيتلها شاورتها ؟
تغابى (مصطفى) العرفة في الموضوع وسأل بدوره (هي منو ؟) .. فضحك الحاج وقال:
ما بقول ليك اسمها لكن بس بديك الحرف الأول منو وانت انقر الباقي:
مااااا دييي نااااااة !!!‬

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]