رأي ومقالات

عصام الحسين: في الممكن.. قبل أن يطير الغراب!

النهر باقٍ ما بقى الدهر، ومياهه الهادرة أو المنسابة في هدوء لا تعود لكنها تتجدد، والبشر كالنهر تتسلل منهم الأيام بعنفوانها الهادر أو بانسيابها السلس، لكن الذي يمضي منها لا يعود ولا يتجدد، الذي يمضي من هُنا، يُقضم من هُناك، وهكذا تتسرب الأيام وينقضي العمر. والعِبرة تقتضي أن ننتبه قبل أن يطير الغراب ـ أي يشيب الرأس ـ والعبرة مبذولة لا تكلف كثير عناء، مثلها مثل غراب بعثه الله ليعلمنا كيف نواري السوءة.

كم من العمر أضعنا، ونحن نُحقر وننتقص ونرمي بعضنا بلائمة الفشل وسوء العاقبة وشنيع المنقلب، دون أن نبحث للبلاد عن مخرج بفعل الممكن، ورغم أن الكل حريص على فعل الممكن، لكن المشكلة أن الفعل مرتبط بفهم الراهن السياسي ـ تحدياته ومآلاته وتقلباته ـ وهذه الحقيقة لم يقترب منها أحد رغم أنها هي الأساس، وهي جوهر الأزمة.

واتساقاً مع ذلك، فإن حقائق الأمور لها الغلبة على العاطفة، فالعاطفة حنين داخلي إلى وحدة بعد شتات ـ لا تتعدى ذلك ولا تحيط بسواه ـ لكن الحقائق تتجاوز ذلك إلى شعور بالاطمئنان والاستقرار والأمن، لا توفرها مجرد إجراءات أو قرارات مثل وضع شروط مسبقة للحوار أو اقتصاره على المستجيب وإقصاء الرافض. إنما توفرها دولة محيطة بالضروريات وعلى قمتها سلطة تُدبر وتُرتب، ومن حولها قوة سياسية حيوية في أفكارها، تُعين السلطة أو تجبرها على وضع دستور يستجيب لإرادة الشعب، ثم يتم التوافق على انتخابات تُعيد الحياة للنظام السياسي بالبلاد.

من الطبيعي لأي عقل، أن يأخذ بالأسباب ـ قبل أن تتسرب الأيام وينقضي العمر ـ فهي أيضاً مبذولة ولا تحتاج لكثير بحث، ومن الأسباب: مبادرة النظام للحوار ـ بغض النظر عن دواعيها ومسبباتها ـ ومتطلباتها التي تأتي في مقدمتها الإقبال عليها دون شروط مسبقة، وإلا فكيف يتم التوافق في ظل تمسك كل طرف بشروطه المسبقة؟ وإن كانت ثم ضرورة ملحة لوضع أُطر وضوابط وشروط مسبقة، فمن المفيد أن تتصف بالمرونة، ويمكن أن تغلق بغلاف مقبول، كإعادة تسميتها بعبارات خفيفة على النفس، ومريحة لآذان كل الأطراف فبدلاً من القول بضرورة بسط جميع الحريات يمكن وضع ذلك في إطار المطالبة بإبداء حسن النوايا ومطابقة القول بالعمل، وهكذا يمكن زحزحة الجمود الكامن في العبارات الثقيلة بالتركيز على جوهر المطالب، لا على بريق مظهرها الخارجي.

الموقف يحتاج إلى قوة سياسية ناضجة: تستطيع أن تمد الجسور وتملأ الفراغات، كما يحتاج إلى حكومة رشيدة: تعرف كيف تقدم التنازلات وتبعث الطمأنينة، وبينهما شعب: صمته عنيف وردة فعله أعنف، ولا يخشى أن يطير الغراب!.

عصام الحسين