جوبا ما تزال مقصِرة تجاه الخرطوم !
لأسباب ربما ذات صلة بمبادئه الأخلاقية لم يشأ السودان حتى الآن الضغط على الحكومة الجنوبية فى جوبا لنفض يديها من تقديم الدعم والإيواء لأنشطة الحركات السودانية المسلحة التى ما تزال رغم كل الاوضاع الصعبة التى قاستها جوبا مؤخراً تعيش حياتها السياسية فى دولة الجنوب وجوبا تطعمها وتسقيها وتغدق عليها نثريات الاقامة، وحوافر الأداء الجيد!
لقد كان بإمكان الخرطوم أن تنتهز الهزة المدوية فى دولة جنوب السودان والتى ما تزال توابعها الإرتدادية تتفاعل لكي تدفع جوبا باتجاه التخلص وإلى الأبد من هذه الحركات المسلحة. جوبا نفسها فيما يبدو ورغم التجربة المريرة التى مرت بها وأدركت من خلالها مرارة مواجهة المتمردين ومصارعتهم بيد، والامساك بمقود الدولة بيد أخرى وحركة النزوح واللجوء، ونقص الغذاء وتفشي الأمراض وضربات السياط الدولية إلا أنها لم تستفد حتى الآن أي شيء ولم تأخذ العظة مما تعايشه لكي تدرك فداحة ما ترتكتبه فى حق السودان.
صحيح ان زيارة وزير الدفاع السوداني الأخيرة الى جوبا وتأكيداته للقيادة الجنوبية بأن الخرطوم تدعم الشرعية فى جوبا أوجدت مناخاً مواتياً تقرر بموجبه انطلاق اعمال الترتيبات الأمنية وتحديد المنطقة الصفرية والمنطقة العازلة واصلاح شأن الحدود المشتركة فى بحر أسبوعين من الآن.
وصحيح أيضاً ان القيادة الجنوبية استشعرت -بفعل سخونة ما تعرضت له- ضرورات المنطقة العازلة وتأمين الحدود المشتركة والعمل على إبعاد أية انشطة مسلحة سالبة تؤذي أيّ من الدولتين؛ إلا ان تباطؤ جوبا ومراهنتها رغم ما عانته وما قد ينتظرها فى إعادة رتق نسيج علاقاتها مع السودان، بعد كل هذه الدورس العملية الواضحة المعالم يثير القلق فعلاً.
فالترتيبات الامنية المتفق عليها مضت عليها أشهراً طوال ما كانت جوبا لتتأذى كما تأذت منذ اندلاع المواجهات فيما بينها مؤخراً لو أنها -ومنذ البداية- أبدت حرصها التام على إنفاذ هذه الترتيبات وإعمار علاقاتها بالخرطوم بالقدر الذي يجعل من الخرطوم عمقاً استرتيجياً لها.
ومع ذلك فإن الحكومة الجنوبية أتيح لها عملياً ان تستوثق من مواقف السودان وما إذا كان ضالعاً فيما مضى أو الآن فى دعم ناشطين جنوبيين ضدها، وكان الملفت ان الحكومة الجنوبية وطوال أيام الصراع الدموي الذى دار فيها تستطيع -صدقاً أو كذباً- أن تتهم الخرطوم بدعم المتمردين الناشطين ضدها وفى ذات الوقت كانت الجبهة الثورية -تحت بصر وسمع العالم بأسره- تقاتل بضراوة فى صف الحكومة الجنوبية الى أن وصل الأمر درجة تقديم الحوافز والمكافآت على الأداء البطولي النادر الذي أدته هذه الجبهة المسلحة؛ بل إن المؤلم ان الحركات الدارفورية تسنى لها معاودة أنشطتها في اقليم دارفور من جديد جراء الأسلحة والاموال والذخائر التى جنتها من الصراع الجنوبي الجنوبي وبادرت بشن هجمات على المناطق الشرقية لولاية شمال دارفور في كل من الطويشة واللعيت جار النبي وحسكنيتة، وهي مناطق ما كان لهذه الحركات أن تقترب منها قبل أشهر قلائل حين كانت تعاني المسغبة وقلة السلاح والعتاد، ولكنها وبفضل الأرباح العسكرية الجنوبية والحوافز القيمة التى حصلت عليها استطاعت أن تفعل ما فعلت.
إذن نحن أمام معادلة ما يزال بإمكان الحكومة الجنوبية -إن كان الدرس قد وقرَ في قلبها وعقلها- أن تعيد التوازن الأمين إليها، فاللعبة باتت مكشوفة ولفرط سذاجتها وسطحيتها ما عادت ذات جدوى ونفع. فلتختار جوبا ما بين علاقات ناصعة وجوار آمن، وما بين نيران لاهبة لا تنطفئ ودخان يغطي الآفاق باستمرار.
سودان سفاري
ع.ش