أ.د. معز عمر بخيت

أزمة ثقافة أزمة وطن: ثقافة احترام الوقت!!

أزمة ثقافة أزمة وطن : ثقافة احترام الوقت!!
يصفنا الآخرون بالكسل وعدم احترام المواعيد، والخصلتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض، وهما عنوان للا مبالاة التي تهزمنا في هذا الوطن الجريح، وتهزم أمتنا الصغيرة والكبيرة كذلك. فللوقت قيمة حضارية لا تقدر بثمن، والذي يذهب للغرب حيث الحضارة التقنية والمجتمع المتطور يعرف كيف تطورت هذه الأمم لأنها عرفت معنى الحياة وأنها مربوطة بدورة زمنية معينة، فعلمت أن الطريق للأمام يبدأ بمعرفة دورة الحياة هذه، وبرمجة كل المخططات بالعامل الزمني ومنحه الأهمية القصوى عند أداء أية مهمة كانت، رسمية أو خاصة.
هذه الأمم استفادت كثيراً من تعاليم الإسلام التي تحترم الوقت وتقدره بينما معظم المسلمين لا يعيرون الوقت أهمية تذكر، بل يهدرون قيمته في كل ما لا يفيد. فالإسلام والقرآن الكريم وهب للزمن أهمية عظمى حين ربط التشريع الإسلامي معظم العبادات بأزمان مبينة ومفصلة وموزعة على جدول زمني ثابت مثل الصلاة والصيام والحج على سبيل المثال. لا بل وأكثر من ذلك، فقد ذهب الإسلام بعيداً حين جعل المرء مساءلاً عما أنفقه من وقت، حيث روى “الترمذي” في الحديث الصحيح عن النبي “صلى الله عليه وسلم”: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه). وعندما أراد “موسى”- عليه السلام- أن يكلّم ربه أتى في الموعد المحدد الذي وقّته له الله سبحانه وتعالى ولم يتأخر عنه (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ..). فكل شيء في ديننا الحنيف مربوط بميقات له قدسيته (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).. (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا).. (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) صدق الله العظيم.
أذكر أنني وفي زيارتي الأخيرة للسودان، جاءني بعض الأصدقاء في المنزل دون موعد كعادتنا في السودان، وكنت أهم بالخروج لموعد ما فالتقوني بالخارج أمام باب المنزل وكان أول تعليقهم: شكلك طالع.. نحن ما بنأخرك بس جينا نسلم عليك سريع كده ونتلاقى مرة تانية ونبرمج إن شاء الله. بالتأكيد كان لا بد من دعوتهم للدخول وإلا سيتم شطبي من القائمة بعد أكل لحمي وتهزئتي فيما بينهم. وبعد حليفة وقسم وحرّم وعليّ الطلاق (وجه ضاحك) وإن شاء الله دقيقة بس تشربوا ليكم حاجة وبعدين تمشوا.. ما معقول ياخ قاطعين المسافة دي كلها وتمشوا ساكت كدة.. ياااا دكتور إنت عندك مواعيد ما عاوزين نأخرك والله! معليش يا أخوانا كل شيْ ملحوق أدخلوا عليكم الله.. وديك يا الدخلة.. ثلاث ساعات من الونسة والشمارات والكورة والذي منو ثم بين الفينة والأخرى يتذكرون ميعادي ثم يقولون: أخرناك يا دكتور والله.. الطريف في الأمر أن هؤلاء الأصدقاء كان لديهم موعد آخر يبدو أنه مهم جداً فكل عشر دقائق تقريباً يرن هاتف أحدهم فيرد عليه بعد السلام والتحايا النواضر: ياخ نحن في الطريق والله.. خلاص قربنا.. آاااي نحن تقريباً في الكوبري لكن في زي زحمة كده وشكلو في حادث.. بس نطلع من الكوبري ونديك رنة!! ويتكرر هذا المشهد بين كل حين وآخر وهم جالسون يحتسون الشاي ويتناولون ما لذ وطاب من الشمار الحار.
الأطرف في الموضوع أنك ترى الجميع في الشارع العام على عجلة من أمرهم، فتشاهد سائق الحافلة والعربة والشاحنة يتجاوز كل الإشارات الضوئية الحمراء ويصعد فوق الأرصفة ويلعن بوليس الحركة، الذي في رأيه أنه يجوط الحركة بدلاً عن تنظيمها، ويسب الآخرين ثم يضغط على آلة التنبيه (البوري) بمناسبة وبدون مناسبة، ثم يتجاوز السرعة وكأن أمراً جللاً سيحدث إن لم يصل سريعاً، وعند وصوله للمنزل يدخل على عجلة ليغير ملابسه ويلبس (عراقي) ثم يحمل كرسياً للشارع ويجلس عليه بكسل وخمول متأملاً في الغادي والرائح، متجاذباً أطراف الحديث مع ود الجيران وصاحب الدكان، وصديقه عابر السبيل وبتاع الركشة وسيد الحمار.
يقولون إن السوداني حين تسأله متى ستحضر يقول لك سأحضر الساعة تسعة.. بس إنت انتظرني لعشرة، فلو الساعة حداشر ما جيت ممكن اتناشر تمشي! حتى الخطوط الجوية السودانية (سودان أيرويس) كانت تسميها السيدة “قونفور نوردلوند” رئيس جمعية الصداقة السويدية السودانية سابقاً (إن شاء الله أيرويس) لأنها كلما تحضر للمطار في طريقها من الخرطوم للأبيض، حيث مشروع الجمعية التنموي بمنطقة بارا، تجد أن الطائرة قد تأجلت لعدة مرات دون إخطار، ويكتفي الموظف بقوله: (الطيارة دي اتأخرت والله وحا تقوم الساعة ستة إن شاء الله) وعندما تحضر في الوقت الجديد يعطيها وقتاً آخر متبوعاً بـ(إن شاء الله) فارتبطت لديها جملة – إن شاء الله – بأن الأمر لن يحدث أو بعدم الاهتمام به، وصارت تغضب أيما غضب عند سماع جملة إن شاء الله. وأذكر أنها دعتني لاجتماع الجمعية بالسويد وأكدت أنه الساعة السابعة مساءً فقلت لها بالسودانية بتاعتنا: الساعة سبعة معاكم إن شاء الله.. هنا استشاطت غضباً وقالت: ما فيش إن شاء الله الاجتماع الساعة سبعة يعني الساعة سبعة بلغتها العربية المكسرة الجميلة.. واستغفر الله العظيم. فانظروا كيف يحث الإسلام على احترام وتقدير الوقت، بينما ارتبطت مشيئة الخالق سبحانه وتعالى لدينا باللا مبالاة.
الوقت في عمرنا لحظات تمر سراعاً وما انقضى منها لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال، وهو سر الحياة، وما يحسب لنا أو علينا فيها، فإن استثمرناه نلنا الرفعة في الحياة الدنيا والعزة في الآخرة، وإن تركناه يمضي سدى ظللنا هكذا في أسفل الدرك لا دنيا ولا آخرة. ولولا أهمية الوقت لما أقسم المولى عزّ وجلّ بمواقيت تعاقبه من الفجر إلى الفجر عبر النهار، والضحى، والعصر، والليل كما يقول سبحانه وتعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)، (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) صدق الله العظيم.
ونواصل

{ مدخل للخروج:
مرت سنين بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام.. ثم انثنت أيامُ هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام.. ثم انقضت تِلك السنونُ وأهلُها فكأنها وكأنهم أحلام.. معز البحرين
عكس الريح
[email]moizbakhiet@yahoo.com[/email]