[JUSTIFY]
الذكريات كما تغنى بها الفنان المرحوم عثمان الشفيع حلوة وجميلة وان كانت فيها الأيام الصعبة فليسمح لى القراء بمناسبة بروز صديقى د. غازى صلاح الدين كزعيم لحزب الاصلاح الآن الذى قرأت خطابه فى مؤتمره الأول أتجول فى سياحة سياسية بدأتها معه قبل أربعين عاما عقب ثورة شعبان المباركة 1973. كنت وقتها قد تخرجت فى كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم عام 1972 ثم شرعت فى الاعداد لرسالة الماجستير وبسبب اشتراكى فى الثورة تم اعتقالى فى قسم المديرية أو المدرسة لا أذكر بسجن كوبر حتى كان ذلك الصبا حين جاءوا لنا بعشرات المعتقلين من طلاب الطب بجامعة الخرطوم وفيهم ذلك الشاب النحيف الطالب غازى صلاح الدين العتبانى وكان أبرزهم ويتمتع بتقدير زائد وسطهم فادركت أنه قائدهم فى المواجهة العنيفة التى قام بها طلاب الطب مساء”ا ضد نظام مايو فتم اعتقالهم بالعشرات ألحقوهم بنا ليقضوا فترة الستة أشهر وعشر يوما هى الفترة القانونية للاعتقال وفق قانون الأمن آنذاك تنقص ولا تزيد مهما كنت قد عارضت مايو وهتفت ضدها داخل المعتقل.. لا تعذيب ولا بيوت أشباح ( كم هى اليوم فى قانون الأمن؟). كان سجن كوبر فى كل أقسامه يحتوى على مئآت المعتقلين وكانت سلوانا بعد القرآن فى محاضرات و قصائد طالب الدكتوراة آنذاك الشاب الفذ الموسوعى: جعفر ميرغنى ننشدها ونتغنى بها: ( يامنى النفس اغترابا.. حسبنا منك اغترابا.. أين منا الانس والبسمات والثغر العذابا.. قلبونا كيف شئتم ما نسيناه الحبابا.. أهلى ودى كيف انتم خبروا عنا الصحابا.. نحن فى ذكر وشكر أجزل الله الثوابا.. قد جنينا العلم غضا واحتملناه فطابا وعمرنا من شعاب النفس ما كانت خرابا .. واحتقرنا السجن حتى عاد من ضيق رحابا)..الخ القصائد الرائعة التى أدخلت البهجة والاحساس الجميل تجاوزوا به اوضاع السجن الصعبة خاصة من (المراحيض والنوم فى الأرض ولهيب الصيف والبعد عن الأهل والأصدقاء والأحباب !!) لدى المعتقلين من المحامين وأساتذة الجامعات والنقابيين والسياسيين والطلاب..الخ بسبب ثورة شعبان التى قال عنها قائدها الفذ المرحوم أحمد عثمان مكى رئيس اتحاد الجامعة( شعبان عندى شعبان اذا مات شعب بقى الآخر حيا) . وأذكر أنه عندما يحدث نوع من والنقاش والخلاف الفكرى والسياسى بيننا وبين زملائنا الشيوعيين فى عنابر السجن ويحتد ونتبادل الاتهامات ( الذين قال عنهم الطالب سيد أحمد المطيب لاحقا (والله الجامعة بدون الشيوعيين ما لذيذة). عند الخلاف وخوفا من المواجهة اليدوية بين المتطرفين من الجانبين اتدخل فنتقاسم العنابر والأكل القادم من الخارج بيننا لفترة محدودة ثم تعود المياه لمجاريها ونرجع لبعضينا ( ألا ليت أيام الصفاء جديد) وفى خلال فترة التجافى القصيرة نكايد نحن الاسلاميون هؤلاء الشيوعيون وننشد بصوت عالى أبيات صاغها الاستاذ الصادق عبد الله عبد الماجد فى السجن ضد نظام مايو وانقلاب 19 يوليو الشيوعى الفاشل تقول ( بنتحرك ونتحرك وما بنقيف ونتحرك باذن الله.. بعد (مايو) بعد (يوليو) العرفنا كتير، عرفنا الليل ودابى الليل وسهر الليل.. عرفنا الكانو بالحرية بتغنوا وداسوها وداسو الشعب بالنعلات.. قليلين البعرفو الفات دوام ما فات) ..( استطراد:: هل يمكن ان يرد المايويون والشيوعيون عليه اليوم ويضيفوا ( بعد يونيو العرفنا كتير؟) مجرد سؤال!!أرجع الى ذكرياتى مع غازى العتبانى الذى ظللت ولا زلت أقدره كثيرا لسببين منها علاقة السجن والأخوة والمحبة الصادقة فى الله كما مع الآخرين عندما كنا فى الحركة الاسلامية قبل أن تختطف وتتحول الى سلطوية وفساد واقصاء المخالف فى الرأى وضربه تحت الحزام بعكس ما كان سابقا منذ قيامها وتحل فيها شهوات السلطة المطلقة ويتقدم الركب الفاسدون ومحاموا الشياطين والمنافقون والمطبلون لمجرد الهبر ومصالحهم الذاتية وليس للمبادئ ومصالح الوطن ساعدتهم ودعمتهم مراكز القوى التى سيطرت فأساءت للدين والوطن والحركة الاسلامية.. تلك خصية السلطوية المطلقة التى تخرج أسوأ مافى النفس البشرية. كنا حينها فى منتصف عشرينات عمرنا شبابا غض الاهاب والعود أخضر والأيام مقبلة ليسوا موعودين كاليوم بالسبعين من العمر، أذكر جيدا كنت أقرأ فى السجن مسرحية ساخرة ذات مغزى بعنوان ( قلب آخر من اجل الزعيم) قررت ان نمثلها ليلا وهى تتحدث عن خلاف عميق وقع داخل كابينة قيادة الدولة يناقشون تقريرا سريا عرضه رئيس جهاز المخابرات عليهم مفاده ان رئيس الدولة مصاب بمرض خطير فى القلب ولابد من اتخاذ مايرونه مناسبا قبل فوات الأوان).. رأى الاجتماع أن يستفيد الحاضرون من أخصائى القلب الشهير فى جنوب افريقيا د. بيرنارد.. وفعلا احضر د. بيرنارد للاجتماع ودار نقاش حاد داخل القيادة… أسندت تمثيل د. بيرنارد فى تلك المسرحية لطالب الطب غازى صلاح الدين بحكم دراسته، كما فى المسرحية صار النقاش حادا وتباينت الرؤى حيث يرى د. بيرنارد (غازى) انه لابد من اجراء العملية فورا لأن الوقت لا يسمح بالتاخر والا مات الرئيس..اختلف المجتمعون وكانوا يمثلون قيادات (قوى الشعب العامل) حول الموضوع وكان أبرزهم الطالب الذى كان يمثل الاعلام ويناقش بقوة ( الطالب الشهيد عبد الفضيل ابراهيم) وعندما احتد النقاش بين نظرية د. بيرنارد ( الممثل غازى) وبين الآخرين الرافضين للعملية ومن بينهم النائب الأول ورئيس جهاز المخابرات الذى ظهر فى المسرحية ( وكان يمثله الطالب بابكر حنين) أنه كان يتآمر على الرئيس ويتحدث عبر هاتف سرى مع الخارج حتى فوجئ الجميع بقوات الأمن تحيط بهم وتعتقلهم جميعا ويعلن النائب الأول ورئيس جهاز المخابرات استلام السلطة واعلان حالة الطوارئ ووفاة الرئيس القائد المفدى!! تلك الأيام والذكريات…( عزيزى القارئ اقرأ تحليلى لخطاب د. غازى فى مجلة الدستور يوم الأحد القادم بعنوان: خطاب غازى بين مالك بن نبى وهوبس ومنصف المرزوقى).
صحيفة الجريدة
[/JUSTIFY]