عودة مبارك المهدي .. جدلية الدوافع
عودة مبارك الفاضل أول أمس، بعد مغادرته للسودان اعتزالاً للفتنة وابتعاداً عن الصراعات الداخلية لحزب الأمة القومي ـ كما ذكر ـ وفشله في إقناع زعيم الحزب بعقد مصالحة شاملة بين قيادات الحزب وشبابه المتطلعين للثورة والتغيير، وتأكيده على حرصه لإنجاح الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية عمر البشير خلال خطاب الوثبة يناير الماضي، كانت تلك العودة مفاجئة للكل، حيث لم تكن هناك أي مؤشرات سياسية لمبارك سبقت تلك العودة، لكنها السياسة تتحول المواقف في كل الاتجاهات كما الزئبق. اختبار قدرات دعوة الرئيس البشير للقوى المعارضة بالخارج إلى العودة الآمنة، جعلت القيادي بالحزب الشيوعي يوسف حسين يصف عودة مبارك الفاضل بالشيء الطبيعي الذي يجب أن يحدث، ليكون مخاضاً لدعوة الملتقى وإطلاق الحريات، مستدركاً بقوله: عودة الفاضل ستكون بالونة اختبار للحزب الحاكم والذي باتخاذه أي خطوة في الاتجاه المعاكس لما نادى به سنتخذها ضده لعدم كفله للحريات التي نادى بها. نسج العلاقات أثبت الفاضل خلال مسيرته السياسية والحزبية قدرة على المناورة والتكتيك، علاوة على مشاركته في رسم سياسات وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، وهو ما ذهب اليه العضو البرلماني محمد أحمد الزين ـ خلال حديثه لـ «الإنتباهة» ـ بقوله إنها لها انعكاسات على المحيط الدولي والإقليمي بأن الحوار بدأ يعطي ثماره على أرض الواقع بالقراءة الصحيحة التي اتخذها الفاضل بقرار عودته لأجل مرحلة انتقالية دستورية جديدة، وقال إن اختلفنا أو اتفقنا معه فإنه رمز من الرموز السياسية في السودان، مؤكداً أن عودته اختبار حقيقي لخطاب الرئيس وما سيحدث في المرحلة القادمة، لقناعة الحزب الحاكم التامة ببناء الوطن بسواعد أبنائه الأكفاء. حديث الوقائع بينما ابتدر نائب الأمين السياسي بتحالف المعارضة محمد ضياء حديثه بتساؤل حول أسباب عودة مبارك الفاضل الحقيقية غير تلك التي صرح بها، وقال إن الأمر بحاجة إلى أن يوضح الفاضل أسباب وبرنامج عودته حتى لا يصبح الحديث عبارة عن تكهنات، ولنستطيع تحديد مآلات عودته واتجاهاتها وما يمكن أن تحرزه من حراك على كل المستويات، ولن أستطيع الجزم بما ستفرزه الأيام من تفاصيل ووقائع عودته حتى يلج المسرح السياسي ويطرح رؤاه. نظرة تشاؤمية من جهته تحدث الأمين العام للحزب الناصري مصطفى محمود بإسقاطات مآلات الأحداث التي صاحبت أزمة حزب الأمة القومي، مستنكراً كيف يستطيع رأب الصدع في الساحة السياسية وهو الذي مزق حزب الأمة إلى سبعة أجزاء إبان خروجه منه ووضع يده مع الحكومة بما يسمى بمؤتمر سوبا، وهو بذلك قد نجح فيما لم تنجح فيه الإنقاذ بتفتيت حزب عريق وتاريخي كالأمة القومي، وإخراجه له من التحالف الوطني بعد اتفاق جيبوتي، هذا إن لم يكن بإيعاز منها قد تم ذلك.
وأكد مصطفى أن ما يحدث في دولة الجنوب من احتراب وقتل وعدم استقرار جعلت الوضع غير آمن لاستثمارات الفاضل هناك، ولهذا أعتقد أن بحثه عن مصلحته كبقية التجار هو سبب عودته، خاصة أن الاستثمارات الاقتصادية تتداخل مع السياسة داخل القوى التقليدية بحكم تربيتهم غير المعتدلة سياسياً.
عباءة الاستشارية عند النظر لمكونات الجبهة الثورية والأحزاب المعارضة، نجد أن الفاضل أسهم بشكل كبير فيها من خلال العديد من المبادرات التي قادها والتي كشف خلال بيانه عن موافقة قادة الحركات والجبهة الثورية وقطاع الشمال على الحوار والحل السلمي المفضي لوقف الحرب بالنيل الأزرق وجنوب كردفان، إلا أن هذه الرؤية حدت بالقيادي بالمؤتمر الشعبي د. بشير آدم رحمة إلى القول أن مبارك لا تأثير له على قادة الجبهة الثورية أو غيرها، وأنه ليس عضواً اصيلاً فيها؛ معللاً قوله بان الفاضل لم يحمل مع قادة الجبهة الثورية أي سلاح وبهذا يعتبر مجرد استشاريا لهم ليس إلا، مبيناً أن أسباب عودته لحضور مناسبة اجتماعية وبحكم طبيعة الشعب السوداني انه لا يخلط ما بين السياسة والاواصر الاجتماعية بمختلف اشكالها.مصالح مبطنة فحوى بيان عودته تناول جانباً مهماً ذكر فيه مبارك ان احد اسباب خروجه ونقل نشاطه الاقتصادي من السودان للجنوب ويوغندا وما دار حوله من جدل كثيف حينها واتهامات جعلته في قائمة العملاء ورؤوس الفساد، يعود الى انسداد الافق الاقتصادي ـ حسب تعبيره ـ لمن لا ينتمي للمؤتمر الوطني، وهو الاستفهام الذي أجاب عنه القيادي بالوطني د. التجاني مصطفى بقوله انه لا يوجد مستحيل في العمل السياسي، ولا نعلم ما يضمره بعودته الى ان يثبت مبررها الذي ذكره بسعيه للم شمل الصف الوطني، وأشار التجاني الى ان مبارك رغم معارضته للنظام الا انه يتمتع بقدرات يمكن ان تُسخر لجمع الصف الوطني والتحول الى مرحلة السلام ونبذ الحرب بعد كل المدة التي قضاها بالخارج معارضاً فيها للنظام.
البحث عن مستقبل للأمة تمثيل الفاضل لحالة الانشقاق الاقوى في حزب الامة القومي، وهو الذي قاد في العام 1988م مفاوضات توسيع حكومة الصادق المهدي ومهد لدخول حزب الجبهة الاسلامية الى الحكم، يعطي قراءته بالتحذير من انفجار وشيك وانقسام اخر بعضوية الحزب العتيق، تعتبر من الضربات الموجعة التي يوجهها للحزب في الوقت المناسب بعد عودته بحكم ذكائه السياسي الذي عُرف عنه، ودرايته الكاملة بانفراط عقد السيطرة الذي يمسك به الصادق المهدي، وبعد تنامي التيار الرافض للهيمنة الابوية داخل الحزب كما يصفها بعض المراقبين، وهو الاتجاه الذي سلكه المحلل السياسي عبد الله ادم خاطر بتأكيده ان حالة الزخم السياسي التي كونها مبارك الفاضل الذي كان مساعداً لرئيس الجمهورية وانشقاقه الكبير داخل حزب الامة، اضافة الى صلاته السياسية مع الحركة الشعبية والجبهة الثورية، جعلته يدرك اهمية رأيه فيما يتعلق بقضايا الحوار الوطني، ولتكون عودته دافعاً لقضاياه بان يصبح حزب الامة هو القائد وان كانت هناك اختلافات جوهرية داخل قيادته، والتي قد تعني ـ والحديث لخاطر ـ التصالح مع الإمام الصادق والعمل معه لمستقبل مناسب في اطار الحوار الوطني الذي يحدث، وهو الذي كان يدعو الامة القومي للحوار مع النظام وانه سيفضي الى الاستقرار دون خسارة الاطراف الاخرى.
موضوعية العودة مقدرة وزير الداخلية في الديمقراطية الثالثة ومساعد الرئيس بعد اندلاع ثورة الانقاذ الوطني، جعلت د. الفاتح التجاني ـ وزير السياحة الاسبق وأحد المقربين اليه يصف قرار عودته بالموضوعي، وانه لا يتعامل بعشوائية او يدخل العواطف في تقييمه للاوضاع، وعودته تؤكد انها السانحة المناسبة لتدخله بحنكته ومهارته السياسية لوضع بصمته في القضايا الوطنية خاصة بعد الاختراقات التي حدثت في الجبهة الثورية واهتزاز طاولة المفاوضات بين قطاع الشمال والحكومة حتى تصل المفاوضات القادمة الى نتائج ملموسة حول المنطقتين بوضع بصمته عليها، اضافة الى تخصيص جزء منها لقضايا حزبه الاب. طموحات شخصية كما لم يستبعد القيادي بحزب الامة بكري عديل ان تكون تقاطعات الاقتصاد والسياسة هي احد اسباب عودة مبارك الفاضل، الا انه استدرك بقوله انها تقع تحت دائرة الطموحات الشخصية التي يمتلكها كل شخص ويسعى لتحقيقها.
وأكد عديل ان للفاضل دوراً في الاحداث الاخيرة التي لازمت حزب الامة، ولكنها لا تصل الى حد التأثير على ما يدور داخل الحزب بشكل مباشر، على الرغم من وجود شخصيات مؤثرة داخل المنظومة الحزبية تعمل معه والقاعدة الشبابية الكبيرة التي يمتلكها، وفيما يتعلق بقدرته على احداث التغيير داخل الساحة السياسية، اشار بكري الى ان الفاضل طوال وجوده بالخارج لم يكن خاملاً؛ بل متحركا حسب مقتضيات الحال سواء كان مع النظام الحاكم او الاحزاب المعارضة والحركات المسلحة.
لا يستبعد كثيرون أن تكون خطوة العودة لمبارك الفاضل لا تشمل الانتهازية المطلقة لتحقيق مآربه، والاستفادة من اجواء الحريات هذه الايام والتي منحها رئيس الجمهورية لكافة القوى السياسية المناوئة للنظام والمعارضة له، وقد تحمل عودته خطفه للأضواء من صفوف المعارضة خلال الايام المقبلة.
صحيفة الإنتباهة
ربــــاب علـــــي