في أقصى الشمال الكاميروني.. لا أحد يجرؤ على التفوّه بهذه الكلمة..”بوكو حرام”
ولمن تطأ أقدامه مدينة “ماروا” الواقعة على بعد 1366 كم من العاصمة الكاميرونية ياوندي، وهي أيضا العاصمة الاقليمية لأقصى الشمال، فسينتابه حتما شعور بوجود خطب ما.. ففي كل ركن من المدينة، تطالع المرء أفواج من الجنود ينتصبون على تمام الأهبة العسكرية، فيما تجوب أفواج أخرى شوارع المدينة جيئة وذهابا.. نظرات واجمة تجوب بدورها أرجاء المكان، وتتفحّص تفاصيل العدد القليل من المارة..
ففي هذه المنطقة الحدودية مع نيجيريا، حيث يقيم حوالي 272 ألف ساكن، لا أحد يجرؤ على التفوّه باسم “بوكو حرام”.. الكلّ يتحاشى من منطلق الهلع والخوف- استخدام العبارة في حديثه، وفي حال ما اضطرّ إلى ذلك، فإنّه يستخدم عبارات من قبيل “أولئك الأشخاص” أو “هم” أو “ب. ح” .. المهمّ في الأمر أن لا يستعمل اسم “بوكو حرام”، وكأنّ لفظ حروفها لوحده كفيل بوقوعهم ضحية للجماعة المسلّحة..
في الواقع، لا يعكس سلوك سكان “ماروا” ردة فعل مبالغ فيها كما يتراءى في الظاهر، ذلك أنّه في كل مرة ينتقد فيها أحدهم بوكو حرام، يتم العثور عليه مقتولا في الغد.. حيثيات شبيهة بما يحدث في أفلام الرعب، غير أنّها في ذلك المكان لا تصنّع في مخبر سينمائي، وإنّما أضحت واقعا معاشا.. “إنهم بيننا وهم بصدد ملاحظتنا”.. جملة تتردّد بين الفينة والأخرى كلّما همّ أحد بالخوض في حديث حول المجموعة أو حتى مجرّد تلميح إليها.. وبهذه الطريقة، لا أحد أصبح يودّ التطرّق إلى اسم بوكو حرام، بل “لا أحد يجرؤ على فعل ذلك”، بحسب أحد سكان “ماروا”، التقاه، أمس الخميس، مراسل الأناضول في تقاطع لشارعين بالمدينة.
“بوكو حرام” لم يعد مجرّد اسم لمجموعة مسلّحة، وإنما تحوّلت إلى ظاهرة مثيرة للرعب في تلك المدينة الواقعة على الحدود مع نيجيريا.. فبمجرّد أن يتفوّه أحدهم بالاسم، يبتعد عنه المحيطون به في ردة فعل آلية، لتجنّب لمحه من قبل أحد عناصر المجموعة أو من طرف أحد أتباعها، على حدذ تفكيرهم.
وأمام التهديد الذي تمثّله هذه المجموعة لحياة جميع الأشخاص الذين قابلهم مراسل الأناضول، اتّخذ حاكم المنطقة “أواه فونكا أوغستين” بعض التدابير، لعلّ اهمّها “حظر الجولان على الدراجات النارية من الساعة الثامنة ليلا حتى الخامسة صباحا في كلّ المناطق.. في الواقع، كان ذلك نوعا من حظر التجوال، بما أنّ الدراجات النارية تشكّل وسيلة التنقل الرئيسية في تلك المناطق، وسيارات الأجرة هي وسيلة النقل الجماعية الوحيدة المتوفرة. فالموظّفون الاداريون ورجال الدين هم فقط من يمتلكون سيارات، في حين يتنقّل بقية السكان باستخدام الدراجات النارية. ورغم أنّ حظر الجولان ينطلق من الساعة الثامنة ليلا، إلاّ أنّ شوارع المدينة تقفر تقريبا من الساعة السادسة مساء، أي مع بداية حلول الظلام.
في غضون سنة، شهدت منطقة أقصى الشمال الكاميروني العديد من عمليات الخطف والهجمات المسلّحة.. حصيلة واسعة لحوادث مريعة، بيد أنّ لا أحد ممّن تحدّث معهم مراسل الأناضول كان بإمكانه تحديد العدد
الجملي للضحايا.. كلّ ما حصل عليه كان عبارة عن رواية وصفية لقصة تواتر أحداث العنف في المنطقة، مرفوقة بتأويلات متعدّدة ومختلفة.. موظّف إداري بمدينة “ماروا” (فضل عدم الكشف عن هويته) قال
للأناضول “نعتقد أنّ هؤلاء الأشخاص (بوكو حرام) لا يمكنهم التحرّك بتلك الدقة إلاّ في ظلّ وجود تواطؤ من طرف البعض منا (سكان المنطقة).. لذلك فنحن نتّهم الجميع ونتجسّس على بعضنا البعض، وهذا يحدث حتى بين الزملاء”، مضيفا “لم يعد بإمكاننا التحدّث بحرية، لأنّ كلّ كلمة نتفوّه بها قد يتم تأويلها بطرق خاطئة. فالجميع يبحث بين طيات المحادثة عن أي مؤشر يمكن أن يقيم دليلا على أنّ الجار أو الزميل وحتى الأخ يعمل لصالح هؤلاء الناس(بوكو حرام).. إنّه من الصعب بمكان العمل والعيش في ظلّ ظروف مماثلة”.
وعملا منها على دفع عجلة الحياة التي تكاد تتوقّف بفعل تنامي المخاوف والتهديد في المدينة، توجّهت الإدارة نحو تعزيز تدابير الأمن في جميع الأماكن التي تشكّل نبض المدينة والنقاط الاستراتيجية فيها، على غرار الخدمات العامة والمستشفيات والمدارس. كما تمّ تكليف عدد من الجنود بتوفير الحماية للجاليات الأجنبية المقيمة بالمنطقة، بما فيها رجال الدين. كما تخضع منازل أفراد الجاليات والموظفين الاداريين إلى المراقبة المستمرة من قبل القوات المسلحة.
ملامح الخوف والرعب لم تطبق على سكان “ماروا” فحسب.. ففي بلدة “تشيري” الواقعة على بعد حوالي 30 كم منها، يعم الهلع بدرجات مضاعفة سكان هذه المنطقة، وذلك بسبب ما عرفته من فظائع ارتسمت في ذاكرة كلّ فرد من سكانها.. في “تشيري”، أصبح تسلسل الأحداث اليومية فيها مقترنا بهجمات بوكو حرام المختلفة، وتاريخها المعاصر يقتصر على حقبتين: ما قبل بوكو حرام وما بعدها..
ففي هذه البلدة، تم اختطاف اثنين من الكهنة الإيطاليين والراهبة الكندية في نيسان/ أبريل المنقضي.. وبالاعتماد على أسلوب تننفيذ العملية وقرب الموقع الجغرافي للبلدة من نيجيريا، نسب الاختطاف إلى مجموعة بوكو حرام، والتي لم تعقّب لا عن العملية ولاعلى تحميلها إياها مسؤولية ارتكابها.
في “تشيري” أيضا لا أحد يجرؤ على التفوّه باسم “بوكو حرام” أو بكلمة “اختطاف”.. لدينا انطباع بأنّهم يظهرون حال التفوّه باسمهم”، بحسب ممثّل المجتمع المحلي “غابرييل ماتيكو”، في تعقيب على الموضوع.
“ماتيكو” أضاف قائلا “في السابق كنا على ما يرام.. كنا نخرج في كل ساعات الليل والنهار.. وبسبب ارتفاع درجات الحرارة، كنا ننام وأبواب منازلنا مفتوحة. لكن منذ حادثة الاختطاف، لم نعد نشعر بأنّنا في أمان..ولقد شعرنا بالخوف من منطلق شعورنا بأنّهم يعرفوننا جيّدا، فبمجرّد سماع صوت دراجة نارية، يحدّق الجميع في راكبها للتأكّد ما إذا كان من الوجوه التي يعرفها أو لا”.
الراهبة “أنجيلا نغو نغوك” تعيش في بلدة “تشيري” منذ ستّ سنوات، وكانت من ضمن الحضور يوم اختطاف الكهنة الايطاليين والراهبة الكندية، تقول “لقد دخل هؤلاء الرجال إلى البلدة ليلا من البوابة الرئيسية، قبل ان يتّجهوا رأسا إلى غرفة الأخت (الراهبة) جلبرت، رغم وجود الكثير من الأبواب المتشابهة”، قبل أن تتابع بحزن ظاهر “بعد تنفيذ مخطّطهم، ركبوا سيارة تنتمي إلى طائفتنا الدينية، وسلكوا طريقا مغايرة عبر الأشجار.. لا بدّ من معرفة دقيقة بالاماكن لاتّخاذ تلك الطريق، أو بالأحرى العثور عليها دون الاصطدام بالأشجار”.
وتابعت الراهبة حديثها، مشيرة إلى أنّ رجال الشرطة استجوبوا في العديد من المرات سكان البلدة، لأنّ أسلوب تنفيذ العملية بدا شبيها بطريقة بوكو حرام، وهو ما أثار اتّهامات بوجود “تواطؤ داخلي”، بالنظر إلى المعرفة الدقيقة التي أظهرها المختطفون لتفاصيل الأمكنة والطرق الوعرة. “أنجيلا” استطردت قائلة “جميع الذين استجوبتهم الشرطة أفادوا بأنهم لم يروا ولم يسمعوا شيئا في تلك الليلة، لا قبل عملية الاختطاف ولا بعدها، وهذا أمر مؤلم أن يشعر هؤلاء بالخوف، وبالتالي العجز عن المساعدة.. لو قدّموا بعض المعلومات، لكان بالإمكان تجنب وقوع الكثير من الأشياء”.
واقع الحياة مرّ في “تشيري” بسبب شبح بوكو حرام الذي يحوم في كلّ زواياها، والبيئة أيضا قاسية جدا.. فالمناخ حار وجاف، والأرض تغشاها الصخور الصلبة الضخمة والحجارة الدقيقة.. فعلى امتداد النظر، لا شيء يلوح في الأفق سوى هضاب التربة القاحلة والفاقدة للخصوبة.. وعلى تلك التضاريس تنتصب منازل مبنية من الطين مع أسطح من القش. أما مقر المدرسة الابتدائية الحكومية ومنازل رجال الدين، فهي المباني الوحيدة المبنية بالإسمنت.. مشاهد لا توحي بالارتياح في تلك البلدة الباهتة بأقصى الشمال الكاميروني.. فبالإضافة إلى ما حرمته إياها الطبيعة من جمال وخصوبة، تعيش البلدة على وقع بائس حزين مع احتمال تجدّد الهجمات المنسوبة إلى بوكو حرام.. مشهد قاتم لا تنير أركانه سوى تطوّع أفراد البعثة الكاثوليكية بالمدينة وأحيانا بعض رجال الدين المحليين- لتقديم الدروس بالمدرسة الابتدائية.
وكالة الاناضول
ماروا (الكاميرون)- آن ميراي نزوانكي