مقالات متنوعة

ماهي الجنة التي هبط منها آدم وزوجه؟

المقال الرابع والعشرون

من (سلسلة مقالات/خواطر من وحي رمضان 1444)

ياترى هل كان هبوط آدم وزوجه عليهما السلام من جنة الخلد؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} البقرة.
الرأي الغالب عند المسلمين أن الهبوط كان من جنة الخلد، والأدلة على ذلك كثيرة ولها اعتباريتها، ولكن هناك من الأدلة والردود ما جعلني أركن إلى أن الهبوط لم يكن من جنة الخلد، انما كان من جنة عاش فيها ابوانا في مكان ما (على أرضنا هذه)، وأن الهبوط كان منها إلى مكان آخر على ذات أرضنا التي نعيش عليها، قال بذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه “مفتاح دار السعادة”، واسهب في الرد على القائلين بأنها جنة الخلد، ولم يدع حجة إلا دحضها، وأورد حجة من قالوا بأنها جنة في الأرض:
هذا قول تكثر الدلائل الموجبة للقول به فنذكر بعضها، قالوا قد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد انما يكون الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى لنا في كتابة بصفاتها، ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفته ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها.
قالوا فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي اعدت للمتقين بإنها دار المقامة فمن دخلها أقام بها؛ ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها.
ووصفها بإنها جنة الخلد؛ وآدم لم يخلد فيها.
ووصفها بأنها دار ثواب وجزاء؛ لا دار تكليف وأمر ونهى.
ووصفها بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان؛ وقد ابتلى آدم فيها بأعظم الابتلاء.
ووصفها بأنها دار لا يعصي الله فيها أبدا؛ وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها.
ووصفها بأنها ليست دار خوف ولا حزن؛ وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل.
وسماها دار السلام؛ ولم يسلم فيها الأبوان من الفتنة.
ودار القرار؛ ولم يستقر فيها.
وقال في داخلها وما هم منها بمخرجين؛ وقد اخرج منها الأبوان.
وقال لا يمسهم فيها نصب؛ وقد ند فيها آدم هاربا فارا وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه.
وأخبر أنه لالغو فيها ولا تأثيم؛ وقد سمع فيها آدم لغو إبليس وإثمه.
وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذب؛ وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب إبليس.
وقد سماها الله سبحانه وتعالى مقعد صدق؛ وقد كذب فيها إبليس وحلف على كذبه.
وقد قال تعالى للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة؛ ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى، فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومحال أن يكون هذا في جنة المأوى.
وقد أخبر الله تعالى عن إبليس إنه قال لآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فإن كان الله سبحانه وتعالى قد اسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه ويقول له كيف تدلني على شيء أنا فيه وقد أعطيته.
ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد اخبر آدم إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين؛ ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس ولا مال إلى نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما أطعمه فيه من الخلد.
قالوا ولو كان أدم أسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يسكنها إلا طاهر مقدس؛ فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس المذموم المدحور حتى فتن فيها أدم عليه السلام ووسوس له؟.
وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه وإما أن تكون في أذنه؛ وعلى التقديرين فكيف توصل اللعين إلى دخول دار المتقين؟.
وأيضا بعد أن قيل له اهبط منها (فما يكون لك أن تتكبر فيها) أيفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط عليه والأبعاد له والزجر والطرد بعتوه واستكباره؟ وهل هذا يلائم قوله فما يكون لك أن تتكبر فيها؟، فإن كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تكبرا فما التكبر بعد هذا؟.
فإن قلتم فلعل وسوسته وصلت إلى الأبوين وهو في الأرض وهما فوق السماء في عليين؛ فهذا غير معقول لغة ولا حسا ولا عرفا.
وإن زعمتم انه دخل في بطن الحية حتى أوصل إليهما الوسوسة فأبطل وأبطل؛ إذ كيف يرتقي بعد الاهباط إلى أن يدخل الجنة ولو في بطن الحية؟.
وإذا قلتم إنه دخل في قلوبهما ووسوس إليهما فالمحذور قائم.
وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى حكى مخاطبته لهما كلاما سمعاه شفاها فقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة.
انتهى.
وكذلك من الذين يرون أن الهبوط لم يكن من جنة الخلد الشيخ محمد متولى الشعراوي رحمه الله، حيث قال: (بعد أن خلق الله آدم وأمر الملائكة أن تسجد له، وحدث كفر إبليس ومعصيته؛ أراد الله أن يمارس آدم مهمته على الأرض. ولكنه قبل أن يمارس مهمته أدخله الله في تجربة عملية عن المنهج الذي سيتبعه الإنسان في الأرض، وعن الغواية التي سيتعرض لها من إبليس. فالله رحمة منه لم يشأ أن يبدأ آدم مهمته في الوجود على أساس نظري، لأن هناك فرقا بين الكلام النظري والتجربة…)
إلى أن قال رحمه الله: (بعض الناس يقول انها جنة الخلد التي سيدخل فيها المؤمنون في الآخرة. وبعضهم قال لولا أن آدم عصى لكنا نعيش في الجنة. نقول لهم لا . . جنة الآخرة هي للآخرة ولا يعيش فيها إنسان فترة من الوقت ثم بعد ذلك يطرد منها، بل هي كما أخبرنا الله تعالى جنة الخلد . . كل من دخلها عاش في نعيم أبدي.
إذن فما هي الجنة التي عاش فيها آدم وحواء؟ هذه الجنة هي جنة التجربة أو المكان الذي تمت فيه تجربة تطبيق المنهج…) ثم قال رحمه الله بعدها: (ليست جنة الخلد وإنما هي جنة سيمارس فيها تجربة تطبيق المنهج. ولذلك لا يقال: كيف دخل إبليس الجنة بعد أن عصى وكفر، لأن هذه ليست جنة الخلد، ولابد أن تنتبه إلى ذلك جيدا حتى لا يقال أن معصية آدم هي التي أخرجت البشر من الجنة. لأن الله تعالى قبل أن يخلق آدم حدد مهمته فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} البقرة 30
فآدم مخلوق للخلافة في الأرض، ومن صلح من ذريته يدخل جنة الخلد في الآخرة، ومن دخل جنة الخلد عاش في النعيم خالدا…) إلى أن قال رحمه الله: (جعلهما الله يمران بتجربة عملية بالنسبة لتطبيق المنهج وبالنسبة لإغواء الشيطان. وحذرهما بأن الشيطان عدو لهما).
انتهى كلام الشيخ الشعراوي رحمه الله.
وهذا ما أجده اقرب للصواب والله أعلم.
وإلى المقال/الخاطرة الخامس والعشرون ان شاء الله.

صحيفة الانتباهة