السبب “التافه!”

عندما سافرت في الثمانينيات- إلى كندا لدورة تدريبيةفي هندسة الكمبيوتر..انبهرت بالأجهزة الحديثة المتاحة لنا للتعامل مع الأعطال الفنية في الكمبيوتر.. في نهاية الأسبوع الأول خضعنا لأول اختبار.. طلب مني المهندس (الكندي) المشرف على التدريب إصلاح عطل في الـ(بورد) الرئيسي لجهاز الكمبيوتر.. لم أتردد بكل حماس قمت بتوصيل أجهزة الكشف عن الأعطال الحديثة.. وبدأت أتطلع إلى تشكيلات الشارات الرقمية الصادرة من الأجهزة لأتتبع مصدر العطل.

المهندس المشرف على التدريب.. لم ينتظر كثيراً ليرى نتيجة ما أفعله.. أمسك بيدي وهو يقول لي (القاعدة الأولى: دائماً ابدأ الحل بالبحث عن السبب التافه)..أي قبل استخدام الأدوات المعقدة لحل المشكلة.. فتش عن سبب (تافه) قد يكون هو المشكلة.. فأر قضم أحد أسلاك التوصيل.. أو كسر في اللوحة..

هذه الحكمة تسري بكل دقة- على واقعنا السياسي المأزوم.. وراء كل مشكلة عويصة سبب (تافه) جداً.. ولاأقول ذلك على سبيل المجاز.. أو المزاح.. بل صدقوني والله العظيم.. أعني الكلمة بكل ما فيها من أسى محبط..

مثلاً.. تسمع أو تقرأتصريحاً نارياً خطيراً لسياسي عظيم.. ومن باب الـ(Sophistication)التي تفترضها في الشخصية السياسية الخطيرة.. تظن أن التصريح نتاج دراسة عميقة لمؤسسات الحزب.. ولكن بقليل من الاستقصاء والتحري تكتشف أن التصريح الخطير هو من سلالة سبب فطير..

الأمثلة كثيرة.. لكن لأسباب كثيرة أيضاً أفضل أن لا أفضي لكم بها هنا.. حفاظاً على شعور الساسة.. خاصة المصنفين تحت قائمة (سياسي خطير).. وعلى كل حال الذي يصر على الحصول على أمثلة (يطالعني في الفيسبوك).. وكلمة (يطالعني) ليس المقصود بها (المطالعة) بمعنى القراءة.. بل (يطالعني) التي كنا ننطق بها بكل تحفز وتحرش في المدرسة الابتدائية لمن يتحدانا في أمر يتطلب (الرجالة)..

على مسؤوليتك أنت.. حاول تطبيق هذه النظرية على كثير من القضايا الشائكة التي تراها على المسرح السياسي العام كل يوم.. ابحث دائماً عن (السبب التافه) وراء المشكلة العويصة.. وستكتشف أن كل مشاكلنا لا تحتاج إلى (مفك).. كلها تحت بند (تافه.. جداً)..

مثلاً.. لماذا انهار التعليم في بلدنا السودان الذي كان في يوم من الأيام مهبط الوحي لرعايا دول كثيرة وكبيرة كانت تبعث إلينا بطلابها ليتعلموا في مؤسساتنا التعليمية.. الأمر لا يحتاج إلى مؤتمر أو ورشة عمل في قاعة الصداقة أو حتى في قاعة أفراح.. فقط ابحث عن السبب (التافه).

لماذا السودان البلد الزراعي لا يزرع.. وإذا زرع لا يحصد.. وإذا حصد لا ينتج.. وإذا أنتج أو لم ينتج دخل السجن.. السبب يقع تحت طائلة (تافه)..

لماذا نحن محبطون.. أيضاً السبب ليس معضلة.. فهو (تافه)..

أترك المسألة لك.. احصر كل المعضلات التي نواجهها وطبق عليها النظرية.. ستكتشف أننا فعلاً شعب عظيم.. غارق في (شبر ماء).