منوعات

التسوُّق في قاع المدينة “1-2” سوق العزبات بـ “مدينة الفتح”.. “عوين” وأندية إسبانية ومصارين

[JUSTIFY]أبيات شعر تومض الآن في الذاكرة، وشاعرها يستعصى على الاستحضار، فمعذرة: “قاع المدينة في عينيك يرتسم/ سرداب روحك هل مرت به النسم؟ رتّق فضاءك بالأخطاء ليس سوى/ فم التراب على الأحزان يبتسم”.

لماذا لا تتوقف السيارة هذه المرة؟ بينما كان هذا السؤال يومض في خاطري باغتني السائق بقوله: شايف الجبال ديك، جبال المرخيات، التي قريبا منها، فتح الله على (المُخططين) بإنجاز مُخطط سكني اصطلحوا على تسميته بـ (مدينة الفتح)، لكن سُكان (المدينة) الغُبش لم تطاوعهم ألسنتهم لترديد هذا الاسم الرسمي، فأسموها (القرية).

والقرية بعيدة جداً، حتى أن أنين السيارة يُبكيك قبل أن تبكي حالك، وأنت مُهدد بالبواسير، من طول الجلسة في قيظ ظهيرة حارقة، أو مُرشحاً بذهاب بصرك بفضل ما تمن به عليك الـ (كتاحة) اللعينة التي تنهض فجأة من تحت قدميك لتضرب منك الوجه الذي به عيناك وأذناك، فتعود أخرساً وكفيفاً.

أنت والغربة وسلة الجروح

في المنعطف، انحرفت السيارة إلى مدخل القرية تنهب الأرض قاصدة سوق (العزبات)، وعزبات جمعٌ دارج لـ (عزباء)، وهو لفظ يُطلق على أي امرأة لها (سابقة) زواج، لكنها تعيش الآن وحدها، مطلقة، أرملة، أو حتى مُعلقة.

ونحن نخترق القرية تاركين وراءنا دوامات من خيوط غبار كثيف، شعرنا بأن بُعد المكان ينكأ دوماً إحساس الغربة، ويفجر في خواطر البشر وحشةً وخوفاً وهواجس وظنونا، فكانت هيئة الرجل رث الثياب الذي يحاول جاهدا تقليص حجمه ليتناسب مع الظل الشحيح للحائط الذي يمشي جواره، تقول: “من أسكنكِ صُدفة هذا المنفى؟ من أجلسك أنت والغربة وسلة الجروح؟”.

لكنه ظل على يقينٍ أن الظِل سيتمدد أكثر ليقيه حر القرية متناثرة البيوت، تجاوزناه فاختفى كشبح هلامي وصارت مرايا سيارتنا أكثر لمعاناً.

ما في فد فتاة

النسوة (الفتحاويات) افترشن الأرض يبعن (بصلاً) و(ثوماً) و(دكوة) و(شطة) و(كزبرة وشمار)، لكن ضابط المحلية الذي كان يحب الانضباط حتى في ذلك (الخلاء) المديد، ألحّ على تنظيمهن بتوزيع رواكيب للمستحقات، والباقيات يرُسلن إلى قعور بيوتهن. لكنه فوجئ عند استماعه لهن أن كل واحدة تتعلل بحجة أنها (عزباء) كي تُمنح (راكوبة)، فما منه إلا أن قال: “خلاص السوق دا حا نسميه سوق العزبات”. هكذا أتحفنا (سليمان مهدي)، الجزار بسوق (العزبات)، بخلفية الاسم المهول (سوق العزبات).

لكن رواية أخرى تنحر رواية (الجزار)، وتسفك دمها، رواها لنا (عبده زُرقان)، (سيد الطاحونة)، مفادها: شوف يا زول، من صباح الرحمن لحدي الساعة 11، السوق دا مليان بـ (العوين) يشترين ويبعن، ما في راجل يجي، إلا العندو دُكان أو فارش ليهو شيء، بعدين (العوين) البجن ديلا كلهن يا متزوجات ورجالن في الشغل، أو مطلقات، أو رجالن ما في ذاتو، طاشين من البلد عديل كدا، عشان كدا سموه سوق (العزبات)، لكن بعد الساعة حداشر النسوان يمشن بجاي الرجال ينكبوا على السوق بجاي، لكن برضو لا يزال اسمه سوق (العزبات).

نواجذ (عرجون) وحكاياتها

حاجة (عرجون)، امرأة طاعنة في السن واللسان، تمتلك (راكوبتين) من (خيش) قديم لا يظلل من شمس ولا يقي من ماء السماء المتساقط بكثافة هذه الأيام، تبيع بهارات وشطة وويكة في أكياس صغيرة جداً، إلى درجة أنه لا يمكن رؤيتها إلا بصعوبة، الكيس بـ (50 قرشاً) يحتوي على 4 ثومات (مقشرات)، أو حبتي دكوة، وشوية شطة، وهكذا دواليك.

تشي ملامح الحاجة (عرجون) أنها كانت قمراً في صباها الباكر، وربما حتى قبيل أن يحل بها قدر ترحيلها إلى الفتح الذي أعادها مثل اسمها تماماً كـ (العرجون) القديم.

كانت ترقد على جوالٍ افتراضي مليئ بالثقوب، تحوم حولها أرتال النمل ولا تؤذيها، غير أنني آذيت قيلولتها تلك بتطفلي عليها فاستقبلتني على مضض و(حكت) قائلة: سموهو سوق (العزبات) لأنو النسوان الفيهو ديل يا مطلقات يا عجايز، مافيهو فد فتاة.

قالت قولتها هذي وقهقهت مُبدية نواجذ رقص عليها الزمن وغنىّ، تواصل (عرجون): أنا دفعت في الراكوبة دي (مية وكم وتلاتين كدا) وبعد دا يجوا يشيلوا مني ربط شهري، دي عملية كويسة عليك النبي؟

شن البيع في البلد دا؟

نور خافت ينبعث من مصباح بائعة الكسرة الثلاثينية التي أكرمتني بماء مثلج في كوز استيل لامع ونظيف، رغم أنها لم تبع إلا جنيهين فقط.. قالت والأسى يتربص بملامح وجهها النضيدة، وهي تنظر إلى بناتها الثلاث: الراجل انكسر في حادث حركة في محطة (صابرين)، وقبلنا أنا وبناتي على بيع الكسرة والصبر عليها.

خنقني الماء المثلج، ترى كم بددت من جنيهات لتبل ريقي؟ تحسست جيبي لكنها امرأة لا تستعطي أحداً، وإلاّ لما جلست في سوق (العزبات) خلف طبق كسرة لا يشتريها إلا (العُزاب) أو سكان وسط المدينة.

مريم يعقوب، كيف قذفت بك قسوة الحياة من (دار غرب) إلى (دار صباح) في سوق (العزبات) بالقرية تبيعين (الشطة والدكوة والويكة) واللغاويس الأخرى في أكياس صغيرة، الكيس بقرش والما عندو بلاش؟ تقول مريم: جيت هنا مع ولدي، وكنت الحمد لله مرتاحة، ولدي مات وقبلت السوق عشان أعيش، اشتري وأبيع وأردفت: هو شن البيع في بلدنا دا؟

مثل مريم تماما تبيع زينب بُشرى تلك الأشياء في تلك الأكياس وتقتسمان ذات (الراكوبة) وذات الهم، قالت بت بشرى: بيتنا في السوق.. نبيع وننوم شوية لمن البيع يبرد، ونقبل راجعين أهلنا بالمقسومة لما الشمس تقرّب تقع.. لكن كثيرا ما تقع شمس زينب ورفيقاتها (العزبات) على بطن وجيب خاويين، وعلى قلب أفرغ من فؤاد أم موسى، وصبر كصبر أيوب، وإصرار على حياة. كأنها لا حياة.

اليوم التالي
خ.ي[/JUSTIFY]