التسوُّق في قاع المدينة “2-2” سوق العزبات بـ “مدينة الفتح”.. من أم جنقر إلى مُباريات الليقا الإسبانية
يبدو جل النائمين على (شوالات) مبللة، داخل الرواكيب الفقيرة أو في الصالة (الافتراضية) لنادي أرسنال (الافتراضي) وكأنهم تناولوا قبيل قيلولتهم، (كورةً) من مديدة (فاطمة عبد الرحمن) أو (بليلتها العدسية) يمدون بها أجسادهم المُنهكة بطاقة مقترضة أيضاً.
“هو ناس البلد دي عندهم قروش عشان ياكلوا جردل كامل؟”.
هكذا ابتدرت (فاطمة)، أشهر بائعات أم جنقر والعدسية بسوق العزبات، حديثها إلينا، مستطردة: السوق نايم زي ناسو، لكن على قول العرب “القُحّة أخير من صمة الخشم”، فأنا امرأة متزوجة ولي ولدان، والدهما “زول رزق اليوم باليوم، مرة يلقى ومرات ما يلقى”.
عدلت من جلستها ومضت قائلة: أنا ببيع كورية الطاقة بألف بس، وبجي السوق دا في العصريات، غايتو لمن تقع الشمس بكون بعت نص جردل (عدسية) وزيّو من (أم جنقر)، وأردفت ضاحكة: الجماعة يضربوا تمام ويقوموا يتبطحوا في الضللة دي.
كوافير وصالونات
الصورة الأخرى من سوق العزبات كانت أكثر إمعانا في السُخرية والمفارقة، حيثُ تقوم أعلى الخيش المتكئ على عيدان رفيعة، لافتة مكتوب عليها (كوافير عفراء) فما أجمل إصرار أهل القرية على الحياة الجميلة! (كوافير عفراء) لا يعمل نهاراً، كان مُغلقاً، لكن يمكنك الدخول إذا أردت، فالإغلاق في سوق العزبات لا يشبة إغلاق حوانيت وسط المدينة، فهنا لا توجد أبواب للمحال، يقولون (الزول دا قفل)، لكنه في الحقيقة (قفل راجعاً) إلى منزله، بينما مدخل دكانه مُشرع.
قُرب (كوافير عفراء) تنتصب (الجوالات) مُعلنة عن (صالون حسكو) للحلاقة، كرسي دوار واحد، ومروحة لا تعمل، يقول الحلاق (حسن إبراهيم) غير يوم الجمعة ما في يوم بغطي معانا، باقي الأيام ناكل من سنامنا، ومن يوم عشرين في الشهر ولي قدام يكون ما في شغل.
لكن (يونس آدم) الجندي السابق بالقوات المسلحة وفني الإلكترونات بسوق العزبات، صب جام غضبه على القرية والسوق والعزبات ذاتن، قائلاً: الواحد لو طلّع حق الفطور يحمد الله، مضيفا: ياخي ديل ما بدوك أكتر من ألفين تلاتة لتصليح الرادي أو المسجل. وأردف: عاد القروش بجيبوها من وين؟
الغلال والنجارة
دُخن، قمح، طابت، هجين، فتريت، عكر، دامرقا، هي أنواع الحبوب التي يعرضها (عبدو زُرقان) في حرم طاحونته المصون، وعلى عكس الجميع اعتبر (زُرقان) أن “الشغل كويس جداً، بس الناس البقشوا الكوشة ديل بشلين مننا 46 جنيه شهري، ودي مبلغ كبير”. واستطرد: قالوا لينا نخفض ليكم ولا الليلة منتظرين.
تستلقي عدة دولايب منتهية الصلاحية أمام راكوبة النجار (جمال الطاهر)، يبدو كل شيء ساكن، لم يتحدث (جمال) عن عمله، وإنما ذهب إلى وصف السوق بأنه (سوق عوين ونساوين) ساكت، وأضاف: خاصة في الفترة الصباحية، سكت برهة، قبل أن يردف مبتسماً: الغريبة إنهن كلهن أعمارهن متساوية، وكلهن نسوان، ما في فد فتاة بيناتن.
يشيلوا الكارو ويخلوا الحمار
وسائل النقل، أمر آخر، عربات كارو تجرها حمير هزيلة.
يقول (عبد الرحمن عمر)، وهو ينجز بعصاه مآرب كثيرة، فهي تعد بديلاً ناجعاً لرجله المبتورة، يهش بها على حماره ويدافع بها عن نفسه إذا اقتضى الأمر، يقول: “والله لو لقيت ركشة ما بطالة معاي، لأنو الكارو ما بتدخل أكتر من 10 آلاف صافي، ودي حالتها ما مرخصة، هسع الجماعة لو قبضوني بشيلوا الكارو، ويخلوا الحمار لأنو بكلفهم علف، وموية ويهنق ليهم الليل وبحميهم ينوموا”.
بينما كُنا نتحدث إلى عبد الرحمن، احتجت السيدة التي كانت (تتوهط) ظهر الكارو “هوي أخرتني من مشواري تجي وللاّ أشوف كارو تانية؟”، فما كان منه إلا أن استدار دورة تستعصي على من يقوم على قدمين، ثم قفز إلى (عجلة القيادة) صائحاً: عررررت.
الأندية الترفيهية
شابان يحرسان الاستقبال، بينما في الداخل يلعب الرواد (الضُمنة) والكوتشينه، ويتبادل بعضهم أنخاب الونسة أو يستلقون على (سباتات) مفروشة على أرضٍ مُبتلة، اضطُرِرنا إلى إيقاظ رئيسه (عبد المنعم جمعة) الشهير بـ (بونيه) من قيلولته (الأُمجنقرية)، رحب بنا قائلا: فكرة النادي دي فكرة أخوي الكبير، بعد ما أدوهو حقوقه ورجع من العمليات، قال نعمل نادي ترفيهي نسترزق منو. وأضاف: عندنا صالة للفيديو وصالة للديجتال، نعرض الأفلام والمُسسلات والمُباريات، بجانب الأخبار للعجايز. واستطرد (بونية): هنالك نادي تاني، لكن قبلنا كان في نادي اسمو برشلونة أغلق أبوابه، وفضلنا نحن برانا في الساحة ومتصدرين دوري سوق العزبات الممتاز.
الفصل الأخير
كم مُدهش أن تلتقي بعالم مُتحد مع المدينة، مُنفصل عنها، عالمُ القاع الذي يحيك تفاصيل حياته على ماكينة قديمة يرقعها (على كيفه)، زاهداً ورائعاً وبسيطاً، ففي القرية كلها بما حملت، مدرستان ومستشفى واحد، يُمنع من دخوله من لا يملك ثلاثة جنيهات بحسب روايات سوق العزبات، الذي غادرناه والشمس تركن إلى الأفق الغربي وفي النفس رغبة في العودة.
اليوم التالي
خ.ي